في الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني 2024، ومن مقرّ الرابطة السريانيّة – سن الفيل، أطلقت مشلين بطرس مولودها الجديد "ملفّات سرّيّة"، الصادر عن منشورات "منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي"، بحجمه الصغير نسبيًّا، وغلافه الأنيق، ومضمونه العميق.
"في البدء كان..."، النصّ الأوّل في الكتاب ضمن القسم الأوّل "قصص قصيرة"، يطالعنا بإيحاءاته العديدة؛ فهل تقصد الكاتبةُ بالعنوان الله – الكلمة التي حجبتها من الاقتباس؟ أم هو الإنسان – الكائن الدائم الحضور على مرّ الأزمنة والعصور؟ أم هو الآخر – الحبيب الذي نعثر على ملامحه خلال السّرد: "أنتظر وصولكَ..." وإذا بكَ العازف الذي يجلس عند محطّة القطار، وينتظر وصولي على سلّم نوتّاته" (ص 9). ولكنّه حضورٌ ضبابيّ، لا سيّما أنّها تذكر "غودو" بطل مسرحيّة "صموئيل بكّيت"، غير المنظور، الذي تنتهي المسرحيّة من دون أن يتمكّن بطلاها فلاديمير وأستراجون من اللقاء به؛ حتّى إنّها تُلبس الحبيب شخصيّة أحد هذين البطلَيْن، ليقف رفقةَ الممثل الهندي "أميتاب باتشان" (البطل الثاني في المسرحية) بانتظار "غودو" الذي لا يأتي؛ وهنا نلاحظ أنّها قلبت الموازين، فلم تعد هي التي تنتظره، إنّما هو الذي ينتظرها "على سلّم النوتات"، حيث رسمَتْ عالماً خياليًّا حالمًا، غارقاً في سحر الموسيقى.
تأخذنا مشلين بطرس في سفر عكسيّ عبر الزمن، حيث وصلتها دعوة من القرن الخامس لحضور مسرحيّة سنسكريتيّة، ثم لا تلبث أن تعقد الأزمنة وتضمّها إلى بعضها، إذ تُدخل إلى المشهد الفنّان الهنديّ المعاصر "أميتاب باتشان"، وتجعله بطل المسرحيّة، معتذرة عن عدم حضور كاتبها "لإبحاره في عمق الميثولوجيا والفلسفة"؛ وبذلك يعبّر تبريرها لغيابه عن رؤية فلسفيّة لواقع حياة الإنسان التي لا تنتهي بالموت الذي تعتبره سَفَرًا أسطوريًّا... ونجدها قد انتقلت بلمحة خاطفة إلى جدار برلين! فلا تخفى علينا أبعاد هذا الخيار المفتوح بدوره على العديد من التأويلات، إذ بعدما ألغت حواجز المسافات التاريخيّة وجدار الموت، وفتحت كلّ الحدود وعبّدت كلّ الطرق، طوت المسافات، وتوقّفت نظراتها عند هذا الجدار الفاصل الذي بناه الإنسان حاجزًا بينه وبين أخيه الإنسان. ثمّ زخرفت النصّ بالموسيقى التي اعتبرها جبران "سرّ الوجود"، وهي في نظرها "موسيقى تدغدغ الوعي في الإنسان"، لتبثّ حياةً جديدة في واقعنا، حياة "تحتفي بالإنسان". وقد استخدمت إلى جانب الآلات الموسيقيّة مصطلحاتٍ خاصّةً بالموسيقى قد لا يفهمها إلّا المتخصّصون فيها (صول، فا، بيمول، دوبل كروش، دييز، نهاوند...) (ص9)، ممّا يشي بسعة معرفتها في هذا المجال. وفي السياق عينه، ومن مهد السنسكريتيّة، اختارت طاغور مستعينةً بفكره لتؤكّد ضرورة نشر الفرح وزرع البسمة إن أردنا أن نعيش في عالمٍ سعيد.
بالرغم من أجواء الفرح والحيويّة التي سيطرت في بداية النصّ الأوّل الذي يشبه لوحةً فنّية تضجّ بالألوان والحيويّة والمرح، تباغتنا، قبل نهايته بقليل، ملامحُ وجعٍ عميق، حيث تسأل الكاتبة بدهشةٍ وحزن: "هل للسلام رائحة الياسمين، وياسمين بلادي حزين؟" وتأتي ردّة فعلها على هذا الواقع المرير، طفوليّةً صادقة: "لففت يديّ حول جذعها وكأنّنا في عناقٍ أبديّ، ثمّ قبّلتها وشممت رائحة عطرها، ومضيت..." (ص 10) لتنهي المشهد المسرحيّ بدعوة لعدم التخاذل، مصرّةً على ضرورة المحاولة، ومعاودة المحاولة من جديد، وإن فشلنا.
تتوهّج نصوص مشلين بطرس بأسماء لامعة لشخصيّات ناضلت في سبيل حرّية الإنسان وسلامه وسعادته (بوذا، سقراط، أفلاطون، رابعة العدويّة، دوستويفسكي، مونيه، نيتشه، طاغور، غيفارا، أوشو، فدوى طوقان، محمود درويش، نوال السعداوي...)، تستعين بكلماتهم وفكرهم بحِرَفيّة وانسيابيّة، من دون تصنُّع، مزاوجةً الأفكار، مستخلصةً نهاياتٍ مفعمة بالأمل، وقد جعلت من نفسها بطلةً من الأبطال صُنّاع السلام على الأرض، في مواجهة خوفها من الواقع المرير "شحٌّ في مياه الأرض، وقلّة في الموارد الغذائيّة ما سيؤدّي إلى جفاف ومجاعات في المستقبل القريب ستطال البلاد النامية..." (ص 13)، "كلّ الكلمات اليوم ملحٌ لا يورق أو يزهر في هذا الليل..." (ص 17).
تعرض مشلين بطرس في نصوصها الواقعَ المُريع بوداعةٍ مذهلة، فنجدها كالفراشة حرّةً طليقة متفلّتة من الأثقال، تبحر عبر الزمن هنا، وتجمع الجوائز هناك، تحلّق أحيانًا مغادرةً لوحة لـ"مونيه"، حاملةً مظلّة تجول بها في سموات كبار الفلاسفة والمبدعين، تصطاد أنجمهم فتتوهّج من خلالها، وتخطفها الموسيقى في كلّ آن...
في القسم الثاني المعنون "قصص قصيرة جدًّا" تشبه النصوص لوحاتٍ مختلفة الأشكال والألوان، إلّا أنّها جميعًا تختصر واقعَ فئاتٍ مهمّشة ومنسيّة، وتضجّ بوجعٍ إنسانيّ كبير. يجذبنا أسلوبها الموارب، ففي "مجتمع بريء" تستعين بقول للشاعر عبدالله شحادة - بمثابة تحيّة وفاء مقصودة أو غير مقصودة - لتبني عليه، ثمّ تستعيد من نصٍّ سابقٍ، أوردته في نهاية القسم الأوّل بعنوان "شيفرة نور"، حادثةَ سرقة لوحة الموناليزا حيث استحضرت بيكاسو وشخصيّات عالميّة وعربيّة، قديمة ومعاصرة، لتطرح مسائل متعلّقة بالفساد، بهدف الإصلاح، ولكن بأسلوبٍ ساحر بعيد عن الوعظ والإرشاد... وكأنّها تكمل، في نهاية القسم الثاني، ما طرحته في نهاية القسم الأوّل، لتخلصَ إلى الفكرة التي من أجلها كتبت وتكتب، والتي اختصرتها في جملتها الأخيرة: "فوجدت الذئب يسكن مع الخروف والنمر مع الجدي، وكتبًا صارت أجنحة تقودهم..." (ص 58) في اقتباس مستقى، عن وعي أو من غير وعي منها، من سفر أشعيا (65:25): "الذِّئْبُ وَالْحَمَلُ يَرْعَيَانِ مَعًا، وَالأَسَدُ يَأْكُلُ التِّبْنَ كَالْبَقَرِ. أَمَّا الْحَيَّةُ فَالتُّرَابُ طَعَامُهَا. لاَ يُؤْذُونَ وَلاَ يُهْلِكُونَ فِي كُلِّ جَبَلِ قُدْسِيّ، قَالَ الرَّبُّ".
تُتقن مشلين بطرس استخدام الإيحاءات وتوظيفها، فتجذب القارئ بعرض مشهديّة مثيرة تشدّ حواسه، فيمكنها عندها تلقيمه الفكرة التي تريدها وتهدف إليها، بعد أن تفاجئه بما لا يتوقّعه من نهايات، كما في "سخرية القدر"، "عقد وجدائل..."، و"حشمة". وتخصّص قسمًا كبيرًا من أقاصيصها لطرح مسائل الفقر والفساد وعمالة الأطفال وتجريدهم من حقوقهم...
إنّ كتاب "ملفّات سرّيّة"، على صِغَر حجمه، يلخّص أزمات يعيشها كثيرون في مجتمعاتنا الشرقيّة بهدف الإضاءة عليها وإيجاد حلول لها، حفاظًا على كرامة الإنسان؛ ويؤكّد لنا أنّنا أمام موهبة شابّة تتميّز بالإبداع، ولها مستقبل واعد. توسّمنا في مشلين بطرس من خلال "ملفّات سرّيّة" كاتبةً مثقّفة وواعية تدرك أيّ طريق تسلك لتحقّقَ أهدافها السامية.