شوقي مسلماني
خليل وفاطمة
هو مهاجِر إلى أوستراليا منذ عام 1968 وصاحب أوّل محلّ سمانة، خضراوات وفواكه افتتحه إبن عرب في سوق شارع ولونغونغ - محلّة أرنكلف - منطقة سانت جورج جنوب سيدني. له طفلان من زوجة فاضلة ارتضته وتحتمل تبعات ارتضائها بصبر جميل فتجمع ما هو يفرِّق وتضيف ما هو يُنقِص على قدر علمها وحلمها. إسمُه خليل، إسمُها فاطمة، أمّا أماندا، الأوستراليّة - البريطانيّة الأصل، البيضاء، الشقراء، الزرقاء العينين والبدينة، فقد علِقتْ خليلاً السخي حدّ الإفراط إذا علِق، و"ما ألذّ هذا العنب" و"ما ألذّ هذا التفّاح" وقبل أن تصل إلى شقّتها في محلّة بانكسيا المجاورة يكون ما تشتهيه قد سبقها إلى شقّتها.
هكذا بدأت أرباح المحلّ تتناقص وفاطمة تصدِّق وخصوصاً حين يقول إنّ السوق ليس له أمان: "يطلع وينزل"، فيما نظراته وحركاته تكذّبه كذباً، وما أوهاه على الكذب. أخيراً وقعتْ فاطمة وبالصدفة المحض، بتأكيدها، على بطاقة في جيب سترته الداخليّة وأثر الشفتين المكتنزتين الحمراوين عليها وإسم أموندا مكتوب بالعربية والخطّ "مفشلك" وهو خطّ خليل ورقم هاتف مكتوب على نحو جميل وليس هو خط خليل بالتأكيد.
وأكّدتْ أموندا التي هي أماندا، بعد مهاتفتها من فاطمة، وبعد إعلامها أنّها تخرّب لها بيتها وأن زوجها خليل وبسببها، صار يضربها ولم يعد يحتضن الأطفال أو يراهم - وكلّ هذا غير صحيح قطعاً - أنّها لم تعرف أنّ كارل أي خليل هو زوج وأب ووحش! وعلى رغم صدق اللهجة ظلّ القلق متشبّثاً بفاطمة. وبعد يومين هاتفتْه أماندا: "هل ستأتي الليلة يا كارل"، وجوارح خليل كلّها متعطّشةـ وأضافت: "هل لديك صديق من أصل لبناني"؟، وما أكثر أصدقاء خليل، وتابعت: "أرجو أن تختار واحداً لصديقة لي تحبّ ذوي الأصول اللبنانيّة". واتّصل خليل بصديقه جيفري- جعفر ، "أبو محسن"، فأجاب أنّه لها ولو هي على حافّة قبرها!
قرعا باب الشقّة، أحدهما كبير الجسم، مليء الخدّين، لطيف، أشعث، جاحظ، هو عين صديقنا خليل، والآخر، قولوا طوله ِشبر أو فتر وأرفع من خيط. وفتحتْ أماندا الباب واحتضنتْ كارل واحتبستْ مشاعرها وهي ترحّب بصاحب صديقتها الفرِح والمرتبِك في آن واحد، وسكبتْ لهما كأسي نبيذ، وعلى رغم أنّهما لا يشربان استقبلاهما بغبطة، ولحظات حتى سأل كارل بلغة إنكليزيّة على قدّه وهو يتلفّت يميناً ويساراً: "شي هِيَرْ؟! شِيْ كَمْ"؟ "هل هي هنا؟! هل جاءت"؟ قالت إنّها كانت تستحمّ وهي ترتدي ملابسها. وهما يعتدلان في مقعديهما نادت باتجاه الغرفة القريبة: فاتيما!، ونادتْ أيضاً: فاتيما! سألها خليل بحذر: أرابيك؟! عربيّة؟! قالت بتأكيد: أند ليبانيز. ولبنانيّة، وأضافت: أند يو نو هير، وأنت تعرفها!
وبعد شهر من هذا اليوم الذي يشيب له رأس الوليد وتجهض الحامل البكر، كما يقال للتهويل، وفيما الحرب في لبنان لا تزال مشمّرة أو على قدم وساق أقلعتْ طائرة من مطار سيدني باتجاه الشرق الأوسط ومن ضمن ركّابها خليل مع كامل طاقم أسرته. وعلى رغم إستواء الطائرة في الجوّ وافتكاك الأحزمة كان خليل لا يزال محزَّماً وبأدبٍ جمّ يرشف من كوب عصير برتقال في يده.
***
أبو شاكر وأبو هاني
اللحم الحلال كان نادراً في سيدني، وكان البعض من الأوستراليين العرب المسلمين، عام 1978، يقصد الملاحم الأوستراليّة لتأمين اللحم، على رغم الِلم أنّه غير مذبوح على الطريقة الإسلاميّة، وبعضهم كان يضع اللّحم فوق مصطبة، مثلاً لا حصراً، يهرق ماء طاهراً فوقه، أو يضعه على منشر الغسيل، في حديقة البيت الخلفيّة، ويرشّه بالماء، ويقول، وهو يمارس هذا الطقس: "بإسم الله، والحمد لله"، مثلاً، فيصير اللحم حلالاً.
دخل أبو شاكر معه تابعه، صديقه الطيّب القلب، أبو هاني، ملحمةً أوستراليّة في محلّة روكدايل - منطقة سانت جورج- جنوب سيدني، وأبو شاكر يجيد بضع مفردات إنكليزيّة، ويتباهى أمام أبي هاني بما يعرف، حتى يظنّ الأخير، الذي لا يجيد غير يس - نعم، ونو - لا، أنّه شكسبير، وقال للحّام: "تو كيلو" - 2 كيلو، رافعاً السبّابة والوسطى، ومشيراً إلى ذاته. ثمّ أشار إلى صديقه أبي هاني وقال: "تو كيلو". وفهم اللحّام الأوسترالي اللطيف ماذا يريدان. وأشار أبو شاكر، أيضاً، إلى فخذ غنم معلّق أمامه. واستلما، ودفعا الثمن، لكنّ الواقعة وقعت حين وقع نظر أبو هاني على قطع خشبيّة عند زاوية من الملحمة، قال لأبي شاكر واثقاً بأنّه سينقل إلى اللحّام ما يطلبه: "اسأله إذا ما بدّو هل خشباتْ أنا باخدهن للموقده"! ووقع أبو شاكر في "حاص باص"، أو "حيص بيص"، هو بالكاد نجا بجلده أنّه استطاع إفهام اللحام ماذا يريدان من اللحم!
رآهما اللحّام الأوسترالي وكأنّهما في أمر، وهو، وبكلّ طيب خاطر، مستعدّ لأي مساعدة. سألهما إذا يستطيع أن يقدّم لهما خدمة، وعمّا يشغل بالهما؟ لم يفهم أبو شاكر كلمة. تطلّع أبو هاني إلى أبي شاكر واستفسره ماذا قال اللحّام. واحتار أبو شاكر، لكن سرعان ما قرّر أن يفرّ إلى الأمام، فهو يكاد ينفضح، قال لتابعه: "قالْ خدوا لحمتكن وفلّوا من هون"! وكم تضايق أبو هاني، حتى قال لأبي شاكر، وهما يخرجان من المحلّ على عجل، وكلّما يلتفت بغضب صوب اللحّام: "يخرب بيتو قدّيشو لئيم، والله والله، من لمّن شفتو ما ارتحتلّو، تحرم عليّي هل ملحمة بعد اليوم"!. وخرجا، أبو هاني تسطع عيناه بجمر الغضب وأبو شاكر يضحك بعبّه.
***
الشرف الرفيع
تشبّثتْ صنّارةُ صيد السمك بأنف الكلب، وزيادة في الطّين بلّة تشبّثت به من الداخل. حمله الأبُ وابنُه، إلى مركز طبّ الحيوانات ـ محلّة "باكسلي" - منطقة سانت جورج جنوب سيدني وتولّى الإبنُ مهمّة الشرح، باعتباره يجيد الإنكليزيّة أحسن من أبيه الذي لا يزال في حال عسر لغوي وإن يفهم أحياناً بعض ما يسمع. وبعدما فهمتْ الممرّضة البيطريّة حالَ الكلب الذي كم تأوّهت له، وقبْلَ إدخاله إلى غرفة العمليّات، طلبتْ روتينيّاً إسم الكلب وإسم عائلته. ومعروف أنّ إسم عائلة الكلب في أوستراليا هو إسم عائلة أصحابه، وليس في ذلك أي حرج. وفهمَ الأبُ السؤال. وقال لإبنه بصوت منخفض وحذر، وبالعربيّة طبعاً: "اعطيها إسم عيلة حدا غيرنا". ارتبك الإبن، فهو لا يرى حرجاً أن يحمل الكلب إسم عائلة أصحابه، ولا يكذب في آن، كما أغلب جيله الذي ينشأ في أوستراليا، وبدون أدنى مبالغة. قال للسكرتيرة: "ماكس". وأمسك، ونظر إلى أبيه، وأبوه نظر إليه بتوتّر، وقال للممرّضة إسم عائلة ماكس. ولم يمض وقت حتى كان الأبُ والإبنُ، ومعهما الكلب المنشرح بنجاح العمليّة، خارج العيادة، والأب يشدّد على إبنه ويقول: "ولكْ يا مجنون، قلتلّك: قلّها إسم عيلة حدا غيرنا، رحت اعطيتها إسم عيلتنا، يعني بعد ناقصنا بالعيله كلب". وفي رواية، أنّهما، وهذه حالهما، كان الكلب يتشمّم ساقي أحد المارّة. وقال الأب لإبنه وهو يكاد ينهار: "إمسك خيّك يلعن بيّك قبل ما يعضّ الزلمي ويحطّوا صورنا بالجرايد والتلفزيونات وتصير فضيحتنا بجلاجل"!.