يتّخذ علي شمس الدين وبلال خبير عنوان مجموعتهما الشعريّة "مدينتان" الصادرة عن دار المتوسّط (طبعة أولى 2023) منطلقاً لبناء حواريّة شعريّة غير مكبّلة بالمعايير الظاهرة، تتمحور حول مواضيع ومفردات ومفاهيم تشغل الوعي البشري القائم. ورغم تقاطعهما عند نقطة السرد الشعريّ إلّا أنّ كلا الشاعرين أظهر زاويته التعبيريّة الخاصّة وتفرّده في تقديم المعنى.
الموضوعات والحواريّة غير المباشرة
حمل شمس الدين وخبيز موضوعات واحدة، وآثر كلّ منهما أن يتبنّى نظرة خاصة حولها دون أن يعلنا لفظيًّا تحاورهما المباشر، وإذا كان شمس الدين اتخذ الشكل الشعريّ المعروف لقصيدة النثر معتمداً على تكثيف ما تسفره مناجاة الأنا وحوارها مع نفسها: "لكي أكتفي بالابتسام / ربّما وجب عليّ الاعتذار عن هذا الشعور" (ص.9) فإنّ بلال خبيز أدخل القصّ السريع جدًّا لتقديم رؤيته وتأويله للفكرة "هي حرّة لأنّها تتكلّم بصوت خفيض، ذلك أن ما تقوله يجب أن يبقى بيني وبينها..."(ص 10)، هذا التباين في طريقة التعبير والتوظيف للأدوات الكتابية أعطى المجموعة طابعاً حواريّاً من ناحيتين: الأولى بين الشاعرين من خلال وضع مقاربتين مختلفتين لموضوعة واحدة تحت عنوان واحد، والثانية بين الشاعرين والمتلقّي الذي سيبقى تائهاً خلال عملية البحث عن المعنى الأقرب إلى فكره، وقد ساعد هذا الاشتغال الكتابي المشترك بين خبيز وشمس الدين على إعادة إحياء فكرتين حول الشعر؛ الأولى هدمت تعريفات العرب القديمة بأنّه كلام موزون ومقفّى ويدلّ على معنى حيث ظهر للشعر ومقاربة الموضوعات بشعريّة أكثر من معنى للشعر. ففي قصيدة "هويّة" يقدّم علي شمس الدين الهويّة على أنّها تبدأ بالتعب لا تتجلّى إلا بالبوح "التعب في هذه المدينة هو مفتاح الكلام" (ص.39) واستخدام لفظة الكلام بدلاً من "الحوار" مثلاً دون الحصر أو الصراخ أو غيرهما من التعابير يعيدنا إلى معنى الكلام ووظائفه المعياريّة لا سيّما الجماليّة التي تسمح بالإبداع والحكم في آن، في المقابل تمايز بلال خبيز عن شمس الدين محاولًا الخروج من قصّة الأنا وتجربتها، إلّا أنه لم ينجُ كتابيًّا " أسيرُ في طريق لا نهاية له، وعليّ أن أنهيه بطريقة ما، وغالبًا سينتهي ولن أنهيه" (ص.40)، التقاطع عند المعنى والسرد والتباين في الشكل الكتابي منحت علي شمس الدين القدرة على تحكّمه بالتكثيف خبرياً وقيّدته في" اللحظة" أكثر، بينما أعطت بلال خبيز القدرة على جعل الأخبار أو الصيغ الخبريّة وحدات سرديّة تماسكت موضوعاتيًّا لكنها خسرتْ جزئيًّا الشاعريّة لولا قدرة خبيز على إنهاء تأويله للموضوعات بـ"قفلة " شاعريّة : "ولن يكون وقتنا متّسعًا للحديث. فلنتحدث في أوقات غيابكِ.(ص.49).
اللغة وارتباطها بالعاطفة
يأتي خبيز وشمس الدين من خلفيّة شعريّة حداثيّة تخرج اللغة من لعبة الزخرفات البلاغيّة والبديعيّة، وتركّز على المعنى ومحاولة تكاثره حول اللفظة أو الموضوعة الواحدة، واللغة لدى الشاعرين شهدت تباينًا من ناحية توظيفها للعاطفة وهو ما أثّر على تقديم المعنى لديهما. فقصيدة "أنا وهي" خير مثال على جعل شمس الدين العاطفة تتبعثر بين الموجودات "يضغطان إلى أن ينكسر قشر السرير/ويسيل النهار إلى نهايته/ واضحاً لا لبس فيه". (ص.32)
خرج شمس الدين من قالب الانفعالات الجسدية الشائعة بين الجنسين وراح يمنح العاطفة للنهار، السرير، والضوء في محاولة لجعلها تنطق بأفكار جديدة تثير التساؤلات، إلا أنها بقيت جزءاً من مشهد يدور حول العلاقة بين الأنا والمرأة الممثلة بالغياب "هي"، أمّا بلال خبيز فقد حافظ على العاطفة متمسكاً بالأسلوب الخبريّ الكلاسيكي الذي ولّد ثباته عند القصّ الشعريّ "رائحة التعب على جلدك، كنت أحتملها، لكنّني بتّ أحبّها، تشعرني بتعبي..." (ص.33)، ما ولّد أيضاً من خلال السطر الشعريّ المذكور على الأقلّ إحياءً للرومنسيّة وإظهاراً مباشراً لانفعالات الجسدين وتواصلهما مع بعضهما البعض.
تحمل اللغة أيضاً لدى الشاعرين طابع البناء العاطفي المنطلق من الشعور الإنساني الواعي، ورغم أن الجلوس عند الهامش لقراءة الذات مشترك بين الطرفين، إلا أنّ علي شمس الدين اختار التسلّط والقوّة "فصناعة الزمن هي حرفة المتخفّين" (ص.63)، وخالفه بلال خبيز حين تبنّى النبرة العاطفيّة لمسالمة المقبلة بتعب نحو مزيد من التجارب "ومن أنا حتّى أحاكم كلّ الذين قتلوني؟!" (ص.64).
شكلّت اللغة موضع اشتباك بين الشاعرين تفرضه العاطفة، تظهر تعاطيًا سريعًا مع المعنى.
حرم علي شمس الدين من محكاة عاطفة الآخر وحرم بلال خبيز من الخروج من عاطفته القلقة.
تبقى المقاربة الدلالية المنهجيّة الأنسب للتعاطي مع المجموعة، كون الشاعرين اجتمعا تحت نفس الموضوعات وحاولا تقديم هويّتهما لخلق حقيقتين "القراءة " كتقنية نقديّة مشتركة مع المتلقّي، واختلاف التعبير عن معنى المشهد(الموضوعة) الواحد بين الشاعرين، ما أخرج المجموعة من صيغة "قصيدة تتمّم قصيدة" نحو فضاء الدلالات المطلق.