ريشار شمعون
"صبيّ القجّة" رواية من الحجم الوسط للكاتب جورج يرق، صدرت حديثًا عن منشورات "كتاب وقمح". بطلُها فتًى يافع اسمه زيّان، استُشهدَ والده بتفجير بيروت في ٤ آب عن زوجة صارت أرملة، وثلاثة أطفال أضحوا يتامى. تدور الأحداث الرئيسية للرواية على لسان الفتى "زيّان"، الذي أعاد سرد وقائع حدثت له بينما كان يعمل في العطلة الصيفيّة لدى العمّ أبي فضّول صاحب دكّانة "كل شيء" في توضيب الأغراض والسلع وتوصيلها إلى الزبائن. واضح أن الدكّانة هذه تقع في قرية لبنانية بعيدة عن المدينة، قليلة السكان وموّزعة على أحياء ثلاثة؛ منها انطلقت الأحداث الكبرى للرواية، وذلك عندما وجدَ الفتى نفسه "متورطًا" في عملٍ لا علاقة له بوظيفته العابرة. ففي أحد الأيام، عادت والدته من المستشفى الذي تعمل فيه مصحوبةً برواية للأديب توفيق يوسف عوّاد، الأمر الذي استثار عجبَه؛ فوالدته انقطعت منذ مدة بعيدة عن المطالعة، وها هي الحياة تعود إليها، ومن المستشفى! لم يطلْ عليه الوقت حتى عرف أنّ مصدر الكتاب هو حملة منظّمة من أشخاص متطوّعين، يهدفون إلى تشجيع المطالعة الورقية، وإعادة الاعتبار إلى الكتاب عن طريق بيعه بثمن رمزيّ يجري تخصيصه للمساهمة في مساعدة المرضى. لقد اختار هؤلاء الأشخاص لأنفسهم اسم "حملة كتاب وقمح" كعنوان لنشاطهم. من حيث لا يدري، صار الفتى "زيّان" شريكًا في هذه الحملة انطلاقًا من دكانة العم أبي فضّول الذي خصّ الحملة برفّين من رفوف محلّه لعرض الكتب. لم يكتفِ الفتى بالاهتمام بالكتب، استقبالًا فتوضيبًا وعرضًا وبيعًا، بل طوّر أدوات الحملة إذ تحوّل إلى قارئ لنفسه أولًا، ثمّ لزوّار الدّكانة من جلساء أبي فضّول، وجميعهم متقاعدون. هذا الشغف قاده إلى مشاريع جديدة كنقل الكتب شخصيًا للمرضى والمقعدين، واستحداث مكتبة نقّالة يحملها على ظهره، يدور بها على أحياء القرية. خلال نشاطه هذا، كان زيّان يتقاضى أجورًا إضافية لقاء قراءاته المتواصلة لروّاد الدكانة (أبو مسعود، الجنرال، أبو إسبر، وجبران)، فضلًا عمّا كان يناله من "بقشيش" من زبائن الدكانة الذين كان يوصِل أغراضهم إلى منازلهم. هذه الأجور الإضافية والإكراميات كان يزجّ بها في قجّة من فخّار، ابتاعها منذ بداية عمله الصيفي في الدكانة بقصد تجميع ثمن "بيسكليت". أما مصير تلك القجّة وتلك البيسكليت فمتروك أمرُه لقارئ الرواية الذي يستحق لذّة اكتشاف النهاية بنفسه.
في هذه الرواية الهادفة تتداخل الأحداث الصغيرة بالكبيرة إذ تتعدّد المواضيع، لا بل القضايا، التي تناولها الكاتب من عمالة الأطفال إلى الهجرة، إلى إشكالية القراءة و"معنى المفردات" فهمًا وتفسيراً (ص ٣٧)، ومقارنة جمهور الشعر بجمهور التاريخ والعلم والرواية (ص ٤٢)، والوفاء ممثلًا بالكلب ماكس (ص١٠٩)، ومحنة الصحة استشفاءً وخدمات (مرض "يوسف" ص ١٠٥ وما يليها)، وسواها من الموضوعات المعضلات التي تطوّق المواطن اللبناني، وقد اشتدّ خناقها منذ خمس سنوات. ويبقى الأبرز في قائمة الأحداث الرابط الذي يجمع الكتاب كنافذة على المعرفة بالصحةّ الجسدية، وسط انهيار سقف الجهات الضامنة، وترك المواطن لقدره البائس…
لغةُ الرواية واضحة، سهلة، وبعيدة عن التكلّف والاستعراض، لكن ليس على حساب الفصاحة الحاضرة دائمًا على مدى الفصول. هي ذات منحى تعليميّ بعيد عن الوعظ، يمتاز بالانسيابية السلسة، وتؤدي فيه الأمثال دورًا مساعدًا كأداة من أدوات تقريب المعنى إلى الأفهام. فمن يعرف جورج يرق اللغويّ القاموسيّ والمدقّق الحنبليّ يعرف مدى الجهد الذي بذله في روايته هذه من أجل "محاربة" مشرط البلاغة عنده!
"صبيّ القجّة" رواية تصلح للناشئة والبالغين معًا وفي آنٍ واحد. لكلٍّ من الفئتين نصيب من المتعة فيها. من أبرز ميزات الحبكة عند كاتبها استناده إلى الجمَل الخبرية الصحيحة على قليلٍ من الإنشاء؛ كلّ ذلك دونما إغراق في التعقيد الكلاسيكي والسوداوية. هي رواية تُخرجكَ من المكان والزمان الراهنين الغارقين في القتامة، وتذهبُ بكَ إلى مطارح الفرح. لقد أخذت من أهراء بيروت الذبيحة قمحَها، فطحنته، وعجنته، وقدّمته خبزًا على شكل كتاب اسمه "صبيّ القجة".