أقامت هبة قطيش الحقيقة النفسيّة المجرّدة على مبدأ السببيّة في مفهوم الرواية، وجعلت عقدة الروي تقوم على رفض الهروب من الوقائع والواقع، ضمن روايتها "ت مفتوحة" الصادرة ضمن منشورات "زمكان".
صاغت هبة الواقع النفسيّ لشخصيات الرواية من خلال الرؤية الذاتيّة لهذه الشخصيّات، وذهبت إلى ضرورة تصوير الأمور الواقعيّة القائمة في الوجود، والمترافقة مع الانفعالات الإنسانيّة. وقد التزمت في هذا التصوير أسلوباً واضحاً دقيق التفاصيل، حين اختارت المواضيع العديدة للرواية من واقع الحياة في صميم الشرق، فنفَذت بذلك إلى شوق القارئ للنهايات التي انتظرها، وقد جاءت معظمها من أقصى الشمال.
أتاحت الراوية للقارئ التوغّل في داخل كلّ مشهد، ورؤيته من جميع الزوايا، وبذلك حقّقت من خلال أسلوبها السّهل رؤية أعماق أعماق المآسي الاجتماعيّة. ومن ثمّ لم تعد حوادث الرواية مجرّد أمور مرّت وتمرّ في مجتمعاتنا، بل جمعت هبة في وقت واحد بين الظاهر والباطن. فقد عرضت آفات عديدة: كختان النساء، والمازوشية، والداعشيّة، والاتّجار بالبشر، والعلاقات الشاذّة وغيرها من مخلّفات التقاليد ونتائج جنوح الارستقراطيّين.
وقد يبدو أنّ قضيّة الزمن قضيّة عقائديّة من الطراز الأوّل، وإنّها حقاً كذلك. أمّا الزمن بالنسبة للكاتب فممارسة عمليّة وليس فكرة نظرية. فقد واجهت هبة قطيش الزمن حين عبّرت عنه، وعن الفسحة الّتي أتت المآسي منها، وصولاً إلى الحاضر المثقل بتَركةٍ دمويّة. فقد فُرض ختان النساء في عصر الفراعنة، واستمرّ إلى عصرنا هذا، والآن تمارسه جميع الطوائف والمجتمعات التي تخاف من تأثير عواطف وأحاسيس المرأة على الشرف، وفقدان أحقيّة السّيطرة الذكوريّة المفروضة والمتوارثة: "جلالها يكمن في أنصع صورة تتجلى بجمالها البرّاق، فهي رمز الأنوثة والتجدّد، لا يقودها إلا روحها وحسها الباطن فيها. لذلك، لو كان للأفاعي لغة لحفلت نصوصها بتحقير الحضاريين، حين رموها في قعر مذابحهم، وحاربوها برماح ذكوريتهم، واستعبدوها بفحولة ناياتهم" (صفحة ١٤).
لم تكن السببيّة الحافز الوحيد على الالتقاء أو الفراق، وكانت فصول هذه الرواية حدّاً ذهبيّاً لعمل الراوية. وقد يتفاوت القارئ في القرب من حقيقتها أو البعد عنها. لكن هبة قطيش تحمّلت خطر المغامرات الرهيبة لأشخاص روايتها في مسيرة الحياة، وبذلت طاقة كبيرة في سبيل الحصول على الوجه الآخر للحقيقة. في هذا الإطار، نذكر ما ورد في الصفحة ١٥٦ على سبيل المثال لا الحصر: "...(أنا فلسطيني، من أم أثيوبية) ... حدّقت به طويلاً، فشعر وائل حين نظر إليها أنها أصبحت مجرد عينين. لقد تحوّل وجهها إلى حدقتين واسعتين تلتهمانه... (هل ستهرب مني لأنني يهودية؟!)". فقصّة هذين الحبيبين هي الوحيدة الّتي كانت نهايتها سعيدة ضمن الرواية.
ورد في الصفحة ٢٠١ من الرواية السؤال الآتي: "أحقاً أن انعدام المنطق عند النشوة هو السبب الرئيس لإنجابي؟". تختلف الإجابة عن هذا السؤال تبعاً للموقف الاجتماعي الخاص الذّي يجد المرء فيه نفسه، بل تختلف كذلك تبعاً للعنصر الذي يركّز عليه المرء اهتمامه، في التركيب المعقّد للممارسات الاجتماعيّة في الشرق أو في الشمال، أي في "روسيا". وهنا يحضرنا السؤال التالي: هل الجنس حقاً غاية بذاته أو أنّه مجرّد وسيلة لغاية روحانيّة، تتمكّن الأجساد بوساطتها من إدخال الأرواح في فلك الصوفيّة؟.
وضعت هبة قطيش أحلام الشباب في نسق التغيير، واشتهاء الحرية وعدالة الحياة، للهروب من جراح الماضي مع كلّ عبثيّته وشذوذه الراسخ في أذهانهم، حيث دمرّت حياتهم مدلولات الحضارة الزائفة، والممارسات الدينيّة والدنيويّة المقيتة. ولا شك في أن هذه الرواية الّتي تخصّصت بمعالجة الواقع الموضوعي، من زاوية تبيان الأثر بعد عرض المسبّبات المباشرة لبؤس الجيل الصاعد، تندرج ضمن مفهوم الفلسفة السببيّة؛ فالسبب والأثر واضحان في مجمل أفعال الرواية.
وضعت هبة قطيش المرأة في التباسات البعد الحضاري في شقّه المشرقي، وأثارت التساؤل في أقانيم الفكر وأبعاده العقائديّة والمعرفيّة والدينيّة. وقد قاربت هذا الموضوع بدالة التفكّر، وليس بتشييئات كتابيّة دون دالة المعنى والمضمون. لذلك فتحت تاء التأنيث، واستلّت سيف الأنوثة بوجه نزق الفكر الذكوري المتعنّت: "على مذبح الإله امتشقت خنجر التاء المفتوحة، سلاحي المعفّر بوأد دماغي، أغمده في أفئدة الأصنام" (صفحة ٨٦). وكانت هذ العبارات وشماً على الروح قبل الجسد.