شربل شربل
كلّما قرأت جبران
تتسارع ضربات قلبي احتفاءً بروائعه التي لا يُستنفد شهدُها، ولا يعروها شحّ، ولم تأخذ منها الأيّام ما يُنقصها.
أهتف للحبّ الذي قدّسَه، وأَخرجَه من دائرة الخير والشرّ، وأعلاه فوق القيم.
أناجي الحرّيّة التي جهر بها، واعتبَرَها جوهر الوجود، وناداها "من أعماق هذه الأعماق" علّها تلتفت إلى هذا الجزء من الدنيا المسمّى شرقاً.
أجهرُ بالثورة التي بثّ مبادئها، وحرّض على القيام بها، لنبذ العبوديّة المتمثّلة بالإقطاعيّة، وبالنواميس البشريّة المتكلّسة، التي عفّى عليها الزمن وما زالت تستعبد الكثيرين.
أحلّق في سماوات الخيال، فأرود جنّات بِكراً، وغاباتٍ عذراء، وأذوب في حضن الجمال السرمديّ.
أجوس أرض الواقع بعيني المستشرف الواثق، وأرغب في الانخراط بالعمل لتخطّي وضعنا المزري.
أستشعر حلاوة الانفتاح على أرحب الآفاق، وعلقم الانغلاق في شرنقة الذات، ونشوة تذّوق جمالات الوجود الحرّ.
أتأمّل بإعجاب المثلّث السامي: العمل والمحبّة والعطاء.
أشعر بواجب الاعتذار من جبران، لأنّنا تقوقعنا داخل حدود "لبناننا"، ولم نحاول العبور إلى "لبنانه".
وكلّما قرأت بحثاً عن جبران أُعمِل عين الدارس والناقد، مسلِّطاً الفكر النقديّ على ما أقرأه، متفحّصاً منهجيّته، موازناً ما بينه وبين ما سبقه من أبحاث تيسّرت لي قراءتُها، مقدّراً ما أقتنع بجدّته، معتزّاً بإضافة معرفيّة فاتتني، مقدّراً جهد الباحث الرصين، ومعترفاً بفضله في خدمة المعرفة وبتميّزه عن سواه.
ولا غرابة في أن يحظى جبران باهتمام الدارسين، منذ نحو مئة سنة، وأن تُكتبَ عن نتاجه عشراتُ، بل مئاتُ الأبحاث والأطاريح، وهو الذي تُرجمت كتبه إلى العديد من اللغات، وترجمت رائعته " النبيّ" إلى مئة وخمس عشرة لغةً، حتّى الآن.
من حقّ القارئ أن يسأل: ما الذي قد يضيفه باحث في نتاج جبران على من سبقه؟ وهل غادر الباحثون فيه من متردّم؟
هذا ما راودني عندما وصلني كتاب الدكتور صبحي حبشي ( Gibran khalil Gibran poète, peintre, prophète= جبران خليل جبران الشاعر، الرسّام، النبيّ) الصادر بالفرنسيّة، في العام ٢٠٢٠. ولكنّ معرفتي بأنّ الباحث من أبرز المهتمّين بدراسة جبران، ومن أصحاب الباع الطويل في الدراسات المقارنة، الأستاذ في جامعة السوربون سابقاً، جعلتني أُقبل على قراءة الكتاب بكلّ جوارحي، وحسناً فعلت.
لم يرُدِ المؤلّف لكتابه هذا أن يكون مجرّد إضافة عدديّة إلى ما كُتب عن حياة جبران ونتاجه، ولكنّه شاءه أن يأتيَ ثمرة مقاربة جديدة، مختلفة عمّا سبقها.
لذلك، متسلّحاً بعين الناقد الخبير، والمقارن الموضوعيّ، والباحث الإنسانيّ، جَرَدَ الدراسات التي نشرت ابتداءً من العام ١٩٣١ حتّى العام ٢٠٢٠ ليتمكّنَ من وضع دراسته في إطارها البحثيّ العامّ، بطريقة أكاديميّة لا غبار عليها.
ودراسته تتناول شخصيّة شرقيّة غربيّة، شاعراً شغلته مسائل الجماليّة والخلق الفنّيّ. وبذلك تمكّن من إضافة إضاءة جديدة على جبران:
١- بوصفه شاعراً ورسّاماً، لا انفصال ما بين إبداعه الشعريّ وإبداعه التشكيليّ اللذين أنجبا عملاً تأسيسيّاً في اللغة العربيّة، كما في الإنكليزيّة.
في العربيّة، أوّلاً، حيث عمل على إيقاظ النفوس، نفوس المضطهَدين عموماً، والنساء خصوصاً، وإضاءة مشعل الحرّيّة، وإرساء منارة الهداية على طريق الثورة والتحرّر وخلع الذوات القديمة.
وفي الإنكليزيّة، بعد ذلك، لكي تصبح رائعته " النبيّ"، التي تُرجمت إلى مئة وخمسَ عشْرةَ لغةً، أشهر الروائع بعد الكتاب المقدّس، والأكثر مبيعاً في العالم مع روائع لاوتسو وشكسبير.
٢- بوصفه نبيّاً، بالمعنى الشاعريّ والرؤيويّ للكلمة؛ هذا المعنى الذي عبّر عنه الشابّيّ، وكان شديد الإعجاب بجبران، في قصيدته " النبيّ المجهول" وقد كنّى به عن الشاعر الرؤيويّ، قال:
" هو في مذهب الحياة نبيٌّ
وهو في شعبه مصابٌ بمسِّ"
وثمّة فرق بين النبيّ والشاعر يكمن في أنّ النبيّ يعيش التعاليم التي يبشّر بها، والشاعر لا يعيشها.
قسم الباحث كتابه إلى ستّة فصول، فضلاً عن المقدّمة والاستنتاجات.
وقد بيّن كيف أنّ الفعل الشعريّ (acte poétique) عند جبران لا يمكننا فصله عن الفعل الفنّيّ، وهو الرسم في هذه الحالة. وكيف أنّ الالتزام الحرّ جعل هذا الجمع ما بين الشاعريّ والتصويريّ منتَجاً تأسيسيّاً في العربيّة كما في الإنكليزيّة.
وقد تركّز عمق العمل الذي قام به المؤلّف على منابع إلهام جبران، في الرسم كما في الشعر. وقد أجرى مقارناتٍ وموازناتٍ ما بين جبران ووليم بلايك، وبينه وبين أوجين كاريير ، وبينه وبين رودان؛ كذلك ما بين جبران والوجه النبويّ للمسيح والصوت المتمرّد لنيتشه، من دون أن ينسى ما بين جبران وڤيكتور هوغو، وبين الغنائيّة الرومانسيّة والظلاميّة الدينيّة.
ولعلّ من مبرّرات الإقدام على هذه الدراسة هو أنّ معظم الدراسات حول جبران ونتاجه أهملت تحليل فنّه، ولم تتطرّق إلى المعنى النقديّ العضويّ، لذلك عمد الباحث إلى سدّ هذه الثغرة، واهتمّ بفترة إقامة جبران في باريس ( ١٩٠٨- ١٩١٠)، حيث هضم القراءاتِ الشعريّةَ ووجد الأشكال الفنّيّة والروحيّة التي طبعت نتاجه الكبير.
في باريس اكتشف "هكذا تكلّم زرادشت"، وكاريير ورودان. وفي هذه الفترة كتب "الأجنحة المتكسّرة". وفيها اكتشف ما كتبه رينان (La vie de Jésus) و (La prière sur l’acropole)، وهما الكتابان اللذان استوحى جبران منهما نظرته ليسوع في كتابه "يسوع ابن الإنسان".
ينسب إلى رودان القول عن جبران "هذا وليم بلايك القرن العشرين" • وفي سبيل تبرير ذلك يثبت الباحث، في الصفحة ١٥٠، ما قاله الناقد الأميركيّ Hillyer، في المشترك ما بين جبران وبلايك، وعلى سبيل المثال: تحرير الحبّ الجسديّ من الارتباط بالمعتقدات لكي يصل إلى التحقّق الروحانيّ. النظر إلى الجمال في الوقت الذي يبدو فيه قصير الأمد ولكنّه في الحقيقة خالد. اكتشاف عجائب الطبيعة، وفي الأشياء العاديّة للحياة اليوميّة. تحدّي أفخاخ المنطق للاتّصال بالله مباشرة. الوقوف باسم الخيال في مواجهة العقل…
ولأنّ شخصيّة المسيح جمعته ببلايك، عمد المؤلّف إلى إجراء موازنة ما بين رسومهما ذات الموضوعات المتقاربة.
أمّا تأثير ڤكتور هوغو الشاعر في جبران فكان بعيد المدى. فهوغو يرى أنّ إحدى عيني الشاعر هي للإنسانيّة، والثانية للطبيعة. العين الأولى تسمّى المشاهدة، والثانية الخيال. ومن النظرة المزدوجة المركّزة على هدفَيْه يولد في دماغ الشاعر الوحي الموحّد والمتعدّد.
وفي مطلق الأحوال، فإن المشترك ما بين الأربعة جبران ورودان وبلايك وهوغو هو ما يسمّى "العين الثالثة" …
كتاب الدكتور صبحي حبشي مرجِع بالغ الدقّة والعمق، ولا بدّ من العودة إليه لاكتشاف أبعاد ما حاولت تلخيصه وحصره، في هذه المقالة، والاطّلاع على تفاصيل بالغة الأهمّيّة تضيء جوانب لم يكشف عنها قبل كتابته.
شكراً دكتور صبحي حبشي. سلم قلمك وفكرك.