بقلم ليليان يمين
طالَما كانَتْ عَلاقَتي بِالرّائحَةِ غَريبَةً بَعْضَ الشَّيْءِ، لَمْ تُعَبّرْ عَنْها يَوْماً زُجاجَةُ عِطْرٍ أَمْ باقَةُ وَرْدٍ، طالَما كانَتْ تَنْسَلُّ مِنَ الدَّاخِلِ، وَتَجِدُ طَريقَها مِنْ حيثُ لا أدْري.
ماذا عَساني أُسَمّي مَثَلاً رائحَةَ مَنْزِلِنا الصَّيْفي لَحْظَةَ أفْتَحُ ٱلْبابَ وَقَدْ هَجَرْناهُ طولَ فَصْلِ الشّتاءِ.
كَيْفَ أُتَرْجِمُ رائحَةَ ٱلْوَرَقِ ٱلأصْفَرِ، وَقْد بَلَّلَهُ أيْلولُ بِأمْطارِهِ، رائحَةَ ٱلْيابِسِ مِنْهُ وَقَدْ خَبَّأتُهُ في دَفْتَري أَمِ ٱلْمُتَساقِطِ أرْضاً، ألرَّطِبِ يَمْتَزِجُ بِالتّرابِ أَمِ ٱلْمُتَناثِرِ على ٱلْمَقْعَدِ ٱلْحَديديّ مُحْتَفِظاً بِصُمْغِهِ، ألْمُتَشَبّثِ في أغْصانِ ٱلأشْجارِ أَمْ ذاكَ الّذي يُحاذِرُ ٱلْهَواءَ وَقَدْ بَدَأَ رِحْلَةَ دَوَرانِهِ السّاحِرِ. كيفَ أشْرَحُ رائحَةَ رَأْسِ رامي الصّغيرِ، الّتي كانَتْ تَتَبَدَّلُ، لِتَكْتَنِزَ حالَها أَكْثَرَ. ماذا أقولُ عَنْ رائحَةِ يَدَيّ ٱلْحَبيبِ ٱلأوَّلِ وَقَدْ ألبَسَتْهُما الشَّمْسُ سُمْرَةَ الصَّيْفِ، عَنِ ٱلْوَرَقَةِ ٱلْبَيْضاءَ لَحْظَةَ ٱلْكِتابَةِ عندما يَقَعُ قَلَمُ الرَّصاصِ سَهْواً، وَعَنْ رائحَةِ رَغيفِ ٱلْحَرْبِ وَقَدْ بَلَّلَتْهُ أُمّي بِقَليلٍ مِنَ ٱلْماءِ لِيَسْهَلَ أَكْلُهُ. رَوائحُ عَديدَةٌ تَسْكُنُني، وَلِكُلّ رائحَةٍ ذاكِرَةٌ، واحِدَةٌ تَعْبُرُ بِسُرْعَةٍ، إلى أُخْرى تَلْبَسُ مَكاناً وَتَصيرُهُ، إلى الّتي إنْ فاحَتْ جَعَلَتْكَ تَسْتَعيدُ زَمَناً، لَعَلَّها تلكَ ٱلآتِيَةُ مِنْ ذاكَ الزَّمَنِ ٱلأَبْيَضِ، زَمَنِ الطّفولَةِ ٱلْبَعيدِ.
كُنْتُ في صِغَري أَرْغَبُ الدّخولَ إلى مَصْنَعِ والدي ٱلْمُخَصَّصِ لِصِناعَةِ ٱلأَحْذِيَةِ وَٱلْجِلْدِياتِ، حيثُ كانَ والدي يُمْضي مُعْظَمَ ساعاتِ النَّهارِ. كانَتْ رائحَةُ ٱلْجُلودِ وَٱلأقْمِشَةِ ٱلْمُخْتَلِفَةِ تَعُمُّ ٱلْمَكانَ، وَكُلَّما اقْتَرَبْتُ مِنْ والدي شَعَرْتُ بِاطْمِئنانٍ رَهيبٍ، وَكَأَنَّني أَسْعَدُ مَخْلوقاتِ ٱلأَرْضِ.
تَرْوي أُمّي أنَّ والدي طالَما كانَ يُضْطَرُّ لِتَرْكِ عَمَلِهِ لِتَهْدِئَتي وَأنا في أشْهُري ٱلأولى، وَتعودُ بِها الذّاكِرَةُ إلى إحْدى ٱلْلَيالي وَقَدْ اشْتَدَّ بُكائي، وَما كُنْتُ أَهْدَأُ مَعَ والدي ما أثارَ دَهْشَتَهُما حتّى تَنَبَّها أنَّني أسْتَغْرِبُ والدي في ثِيابِ النَّوْمِ، فَأعْطَتْهُ أُمّي كَنْزَةَ ذاكَ النَّهارِ، وَما إنْ وَضَعَها عَلى كَتِفِه حَتّى هَدَأْتْ. ما رَوَتْهُ أمّي أسْعَدَني لأنَّه جَعَلَ إحساسي ٱلْقديمَ يَبْدو حَقيقياً، وَصارَتْ تلكَ الرّائحَةُ هي الرّائحَةُ ٱلأولى، وَأطْلَقْتُ عليها رائحَةَ كَنْزَةِ الشّتاءِ.
لِكُلّ رائحَةٍ ذاكِرَةٌ، بَعْضُها مُحَدَّدُ ٱلْمَصْدَرِ وَالنَّوْعِيةِ، بَعْضُها يَتَكَرَّرُ، بَعْضُها مَزيجٌ مِنْ مَصادِرَ عِدَّةٍ، وَلِكُلّ واحِدَةٍ مَطْرَحُها في مَحْفوظاتِكَ. وَقَدْ يَحْدُثُ أنْ تُصيبَكَ رائحَةُ مِنْ خارِجِ كلّ ما أَلِفَتْهُ ذاكِرَتُكَ، فَتَفْتَحُ لِحالِها ذاكِرَةً جَديدَةً، تَماماً كَرائحَةِ الشّاعِرِ ٱلْماثِلِ الرَّحيلِ وَقَدْ دَخَلَ في نومِهِ ٱلْعَميقِ، كانَتْ على دَرَجَةٍ كَبيرَةٍ مِنَ ٱلْغُموضِ، لَمْ تَكُنْ تُشْبِهُ أَيَّةَ رائحَةٍ عَرَفْتُها أوْ تَمُتُّ إليها بِصِلَةٍ، فَكَأَنّي بها مِنْ عالَمٍ آخَرٍ. في تلكَ ٱلْغُرْفَةِ رُحْتُ أسْتَعيدُ كلَّ رائحَةٍ تَخُصُّ ٱلْمَكانَ وَأَحْذِفُها مِنْ رَأْسِي، ألرّائحَةُ ٱلْمُسَيْطِرَةُ لَمْ تَكُنْ تَنْتَمي إلى أيَّةِ فَصيلَةٍ، كانَتْ بِكُلّ بَساطَةٍ غَيْرِ قابِلَةٍ لِلتَّفْسيرِ. بِالرُّغْمِ مِنْ أنَّ هذا ٱلأَمْرَ يَجْعَلُها تَخْتَلِفُ عَنْ كُلّ الرَوائح، لَكِنَّها تَلاقَتْ مَعَها جَميعاً، لأَنَّني شَعَرْتُ مَعَها بِالإطْمِئْنانِ كَإطْمِئْناني لِكَنْزَةِ الشّتاء.