النهار

"ولاد بديعة": الدراما الصافية
المسلسل.
A+   A-
لا ترغب رشا شربتجي في إثارة إزعاج أحد في "أولاد بديعة"، لأن الإزعاج لا يقدّم. إنها الأدرى بذلك من نحوها نحواً واسعاً في الدراما التلفزيونية العربية المشتركة والسورية. لذا تحدث المشاهد، الجمهور، بوضوح عمّا هو عليه. تحدّث الجمهور السوري أولاً. جمهور يقف على المنعطف عندها. لم تبحث عن المصادر لكي توقفها على صقالها، لأنها موجودة في واحد من أصدق النصوص وأقواها في الموسم الرمضاني. نصّ مؤلّف بقلمَي مؤلفَين سوريَّين، لا يلحّ على ذهنهما سوى ما حدث في بلدهما، ومعناه؛ نصّ مستوعب. ما لا يتوفّر دوماً، وفّره علي وجيه ويامن الحجلي. الأخير واحد من ممثلي الدراما التلفزيونية الظاهرة على نحو متوهج في تذكّر ترددات الحرب السورية على المجتمع السوري، ذلك أن هذا المجتمع مرّ بما مرّ به، وبات يستطيع أن يتذكّره ليقرأه، مركّزاً انتباهه على الطبقات الأرضية لا على السطح. الأحداث الصغرى أم الأحداث الكبرى، لا يهمّ، لأن المؤلفين مع مخرجة العمل شربتجي لا يقتربون من أحداث الحرب بصور مباشرة، لأنّهم وجدوها في تردداتها، في امتداداتها في الداخل والمحيط.
 
 
 
العنف والدم في "ولاد بديعة" لا علاقة لهما بالعبث، لأنهما صوت النفس بعد انتهاء العنف المباشر. لن يظهر النص على ضعفٍ من جراء ذلك، بل أشدّ قوة، وربّما أقوى ممّا ينبغي، لأن سوريا مرّت في لحظاتها الدراماتيكية الكبرى، ثمّ إنها لا تزال تسير بجوارها، وها هي دراماها تلقي نظرات غير عجلى عليها؛ نظرات متأمّلة. تقليب النص للأوضاع لا يؤدي إلى تمييز لحظات عن غيرها. بالعكس، لأن اللحظة واحدة. لحظة العنف واحدة كذلك لحظة الدم. اللافت أن الحرب لا توجد بطرق مباشرة على الهواء. إنها تنوجد في التطلّع في مرآتها، حيث لا يمكن تجاهل الصور في المرآة؛ وهي صور صادمة؛ صور ترمز، ولكنها في منتهى الوضوح.
 
مريض ذهاني يقوم بالعنف على نفسه وعلى الآخرين، يقترف الفظائع، كخطف طبيب وحقنه بالموادّ المخدّرة بهدف تحويله إلى مدمن. العنف محكم الشدّ بين وتد خفيف وجذع شجرة، مشاهد صراع الديوك، القتل غير المباشر من خلال نشر الأفلام على مواقع التواصل الإجتماعي وفكّ براغي عجلات السيارت (موت أبو الهول أحد شخصيات الحرب المهيمنة بعد الحرب)، النفعية، التهريب، الدولار وهو يضارب على الليرة السورية، الزواج الاقتصادي، المساكنة. عشرات الأمثلة في منحى يرى الأشياء بطرق لا ينتبه إليها الآخرون. طرق تثير الدهشة لأنّ الدهشة هي الفن. كلّ ما يجيء يجيء لما يليه. شبكة من الانزياحات في مختلف المجالات، مع فريق من المؤدّين اللاعبين على الأركان القصيّة للسقوف لا على الأرض المالسة.
 
 
 
خشونة "ولاد بديعة" من خشونة الواقع. خشونة الأبطال كذلك، خشونة الأحداث، المواقف، العبارات. اختيار عالم المدابغ حجة المؤلّفين اترك الكسل في كتابةٍ لا تقع في التحقيقات الهامشية، ممّا يفترض أن يقوم كلّ بمهامه، بعد أن قام المؤلّفان بمهمّتهما المشتركة. مؤدون لا يخشون العراكات الجسدية والعاطفية، لأنهم رافقوا أنفسهم منذ أعوام بعيدة حتى أضحى الأداء سلاحهم في استرجاع الواقع والتغلّب عليه.
 
 
 
تتضح الأزمة في الأداء، بعد أن تطلبت فترة زمنية لتختمر في مشاهد خاصة بها. مشاهد تحيّر بين تفضيل مكوّن رئيسي على مكوّن آخر. مجموعة من المؤدّين تقوم على تنظيم الحبكة العام، لا فرق بين واحد وآخر. لا فرق بين دور رئيس ولا دور ثانوي. سلافة معمار تكاد تخاصم نفسها بعد أن خاصمت الجميع. شرّها كنافورة ماء. لا تقدّم خدماتها في "ولاد بديعة"، إذ تطهر، وكأنها تتمتع بابتكار القصص والمواقف. محمود نصر المريض الذهانيّ شخصية على خطوط التماس، بحيث لا تفقد عصبها. يعلّم شخصيّته النطق ويمحضها الحرارة. لا يقلّ الآخرون شأناً، من سامر إسماعيل إلى يامن الحجلي ونادين تحسين بك ونادين خوري وفادي صبيح وروزينا لاذقاني. هافال حمدي في كاركاتير لا ينسى. شغيل في وكالة يصفّر آخر حروف جمله. رامز الأسود في دور "الوفا" المشغوف بالغناء. شخصيّة في مجال الوعي الشعبي. وحوش أداء، لا يفترس الواحد الآخر، إذ يدركون أنهم إنّما يعملون على القضية نفسها بإخراج لا ينتظر أن يخفّف أحدهم من حدّة الضغوط، وهو يستفيد منها في تحفيز الشخصيات للوصول إلى الأقصى.
 
 
رشا شربتجي ضابطة إيقاع من رتبة فارس، لا تستأنف أمورها حين تستأنفها، إلا بالأشياء الجديدة. ولاد بديعة دراماها لا تسبقها إلى هدفها، لأنها جهتها القابضة عليها. إنّها تقيمها على واقعيّة أو تصوير العلاقات كما هي عليه في الواقع الحقيقي باضطراباتها البليغة. شربتجي واحدة مِمَن يعترفون بدراماتهم، بحيث تحوّل الدراما إلى مصباح. مشهد ذهاب الأخوين إلى قبر والدهما، حفر الضريح واستعمال إصبعه للبصم على أوراق الوصيّة مذهل. مشهد دفن الوليد علامة. مشهد تنحية الشريك في المدبغة وموته، إثر ذلك، من تشنّجات الذبحة القلبية يطفو فيها الاغتباط العميق من شطارة شربتجي ومؤدِّي ولاد بديعة، كما يطفو فيها الحزن من شق الموت طريقه من اجتماع الدبّاغين إلى طريق الرجل في طقس اجتماعي/ اقتصادي لا يتحسّن.
 
 
 
لعب الجميع على الجوهر الداخلي ما أقام الدراما على هوسٍ قام على الفعل والواقع والتركيز على التفاصيل. إنها دراما المؤدّي المسؤول عن نقل الرسائل إلى الجمهور. كتيبة ولاد بديعة تقود جمهورها إلى التجوال في الواقع السوري في رحلة تدفع إلى السؤال: هل ما وقع هو حقاً ما حدث، وأن النتائج مرعبة إلى هذا الحد؟ الأبرز أن الدراما هذه لا تتوه عن جانبها الوطنيّ من خلال اعتمادها على كادر سوري بالتمام والكمال، ما يطرح السؤال عريضاً حول قضية أن وحدة الهوية ليست قضية جزئيّة، لأنها تكشف القوة والقدرات الذاتية. ثمّ، القدرة على التطور. وهذا كلام لا ينطفئ حول ضرورة الخروج من الدرامات الهجينة، لأن الأخيرة لن توقف القبّرات في هذا البلد أو ذاك، على أغصان الأشجار، لكي تردّد أغانيها الخاصّة. نفس عميق، ثمّ استرخاء. دوران بلا عشوائية في واحدة من أبرز درامات رمضان.

اقرأ في النهار Premium