عبير حسيب عربيد
هو وطن اندثرت فيه الآمال، ودفنت الأحلام في رمس، توالت الأيّام ولم نستسلم.
عشنا كلّ أنواع الحروب فيه، نفسيّة، أمنيّة، إقتصاديّة، عقائديّة، طائفيّة، ولم نذعن لمن أرادوا قلب مقاييس الوطن.
كبرنا، كسح البياض شعرنا والسّواد قلوبنا لكثرة الخيبات، واستمرّينا.
ماذا فعلت بي يوسف طراد؟
لقد أعدت تشغيل تلك الدراما الّتي تعبنا لنزعها من عقلنا الباطني، ولم نستطع.
تلك الأحداث الّتي عشناها ولم تعنِ لنا في حينها إلا الرّعب والحزن لأنّها سرقت منّا أوقات اللّعب وبعض الأتراب.
سمعت طلقات القنّّاصين، غار قلبي مع غارات الطّيران، وانفجر الدّمع من المآقي مع كلّ دوي انفجار.
لا يا أخي يوسف، أنت لم تكتب سيرة ذاتيّة بل كتبت سيرة مجتمع عاش ما عشته بتفاصيله، فمن منّا فارقته رائحة الدّم والأنقاض؟ ومن منّا لم تتعطّل حاسّة سمعه من قوّة دوي الانفجارات؟ ومن منّا لم ينتفض ضميره عند استشهاد بريء لم يكن ذنبه إلّا أنّه من وطن باعه من أوكلوا بحمايته، وقهقهوا فوق القبور وأمام أعين الأمّهات الثّكالى؟
قرأتُ "عطر ودماء" فعشت الحرب من جديد، غلت الدّماء في عروقي وارتفع منسوب الأدرنالين مرّتين، الأولى حين شعرت بتلك الأوقات المرعبة في طفولتي، والثّانية عندما رجعت بالذّكريات وعاد عطر الحبيب الأوّل.
تعرّفت على الحياة العسكريّة الصّاخبة والقاسية، تفاجأت من بعض العقوبات وأكثر ما آلمني حفر حفرة بحجم السّرير والنّوم فيها.
أحببت الجيش اللّبناني منذ بدء تكويني، والآن جعلتني أنحني إجلالا لكلّ عسكري لما سردت من معاناة تكبّدوها وما زالوا.
يوسف طراد المعروف بتطرّفه في حبّ الوطن فاجأني حين جلس تحت سنديانة غضّة على المعبر الّذي كان يعبره للمرور إلى منزله، وتقبّل عزاءه بوطنه بصبر وثبات، من عصافير الغابة، جالسا، خلافا للأعراف.
أحزنني إبداعك
كما أنّ تفاصيل قصّة "صوفيا" عرّفتنا إلى شخصيّة رومنسيّة مختبئة بين طيّات الزّمن وكلمات الغزل غير المبتذلة تعلن تميّز ذلك الحّب الّذي لم يكتب له الاكتمال، لأنّ المحبوبة إختارت نهايته خلافاً لرغبتها، فلقد شعرت بأنّها لن تحظى بسعادة بعد كلّ ما أصابها من ويلات.
الوطن يا أخي يوسف كابن لنا، مهما عانينا منه يبقى حبّه أقوى، وفي لحظة ضعفه تجدنا السّند الأقوى له.
كنت في شبابك، في خدمتك المخلصة وفي تقاعدك فخرا للوطن وما زلت تمارس وطنيّتك، فقد أسلمت البندقيّة بيسراك واستلمت القلم بيمناك، لتخطّ فترة من الزّمن على كلً شاب وشابّة الاطّلاع عليها، كي لا يقبلوا بأن يعيد التّاريخ نفسه.
عندما زرتني كانت أخويتنا في بدايتها، وبهذه البداية ختمت سنوات عصيبة.
أبكيتني ثمّ في النّهاية أسعدتني، لأنّنا تعهّدنا أن نعلّم أبناءنا أنّ الإنسانيّة لا تتجزّأ، فلقد اخترت التّمريض كي لا تواجه أخا لك، واستلّيت القلم لتزيل ألما متأصلا من نفوس تائهة.