النهار

"كان نجم الذاكرة ومعطفها"
"كان نجم الذاكرة ومعطفها".
A+   A-
ليليان يمين

لم يكنْ ممّن يشاركونك الحياة بل كان من صانعيها، لم يكنْ فرداً من أفراد أسرة بل عصب عائلة كبيرة سكنت وجدانه فسكنَ ذاكرتها.

كان صوتُ محرّك سيارته الصباحي يوقظني فأشعر أنّ نهاراً جميلاً قد طلع وعند عودته من عمله نازلاً درجات منزله ساكباً الحيوية والضحكة فأشعر أنّ المساء ينزل بطمأنينة. يوم الأحد كان هو سيّده، يفتح بيته أمام زواره الكثر كما قلبه. لم أشهدْ حتى اللحظة حبّاً يفوق حبّ شقيقاته الأربعة له وأصغرهن أمّي التي على ما أظنّ سقتنا ذاك الحب مع حليبها. عندما أرادَ أبي مرةً تأديبَ أخي الصغير لأنه يتفوّه بالمسبّات هدّدتُه بأنني سأترك البيت، وعندما سألني وإلى أين ستذهبين؟ أجبتُه سأذهبُ إلى خالي أنطوان وهكذا فعلت، هناكَ راح يستمع لي بكل صبر واحترام أنا إبنة التاسعة ويتساءل معي عن الحلّ الممكن مستدرجاً والدي لمشهدية نقاش، هكذا كانَ القاضي الجميل والمصلح الشافي. ويوم مرضت أمي وطالَ مرضُها كان إلى جانبنا فما شعرنا بوحدة، كان يكتنزُ ما لا يوصف من القدرة على انتشال الآخر دون منّة، لن أدخلَ في سرد مواقفه لأنّ كلّ إضاءة ستكون خيانة لأخرى أجمل وأعمق. وجهُه سكنَ العيد ويدُه أخت الهدايا. كان خالي يحب المزاح فتجتهد شقيقاته في تجميع المواقف المضحكة من أجله ففرحه فرحهنّ، وما زاد خالي فرادة حضور زوجته المنسجمة كما العطر في المكان وأولاده الذين كانوا عالماً متكاملاً نعشقه بكلّيته. عندما أدركنا وببطء بأنّ مرضه خطير دخلنا دوامةَ الخوف كلٌ بحسب طاقته وقدرته. أوجاعه الطويلة استنزفت قواه وقوى من حوله، أيٌّ حزن في الإنتظار؟ كيف يغمض عينيه من كانت عيناه على الجميع؟ منذ رحيله أحزان كثيرة مرّت بها عائلتنا الكبيرة، كان كلّ حزن يخفف من وطأةَ حزن آخر لكنّ رحيل خالي ظلّ خارج كل الخسائر، ظلّ هناك راسماً السؤال الأوّل، لماذا تضع الحياة بيننا كلّ هذا الجمال لتعود وتأخذه؟ وكيف يتحوّل الأحد من يوم فرح وبهجة إلى يوم رتيب وكئيب؟

رحيله كسر المشهد فانكسرت حيوات كثيرة.

أعرف بأنني أعود إلى الوراء، ولكنني أيقنتُ مع مرور الوقت بأنّ ما مِن صقيع يضاهي صقيع الذاكرة العارية، وخالي كان نجم الذاكرة ومعطفها.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium