النهار

"كان سيّد مكاوي من هولاء الذين يسكبون الضحكة في الهواء"
المصدر: "النهار"
"كان سيّد مكاوي من هولاء الذين يسكبون الضحكة في الهواء"
تعبيرية.
A+   A-
ليليان يمين
 
لم يكنْ هناك وقتٌ للإنتظار أو للتحضير فما إن عرفتُ أنّ السيّد مكاوي ينزل في إحدى أوتيلات إهدن سارعت ودون الإستئذان المسبق خشية الرفض، تصرف لا تبرّره سوى سنواتي العشرين، طرقتُ باب غرفته، فَتحت لي امرأة عرفتُ لاحقاً أنها زوجته، إبتسمتُ لها بمودّة مبالغ فيها، فسؤال من عينيها جوابه بأنني أرغب بمقابلة مع السيّد فجاء الرفض منه حاسماً، رجوتها بنظرة أن تحاول فحاولت ولم تفلحْ. عندها فعلتُ ما يحلو لي في مثل هذه المواقف فكسرت الجديّة بالمزاح قائلة: "ويهون عليك أعيّط؟"، "تعيطي يا بنت؟"، "آه حَعيّط وقوي كمان"، فضحك عالياً وهكذا بدأنا الحوار نحن الثلاثة والمزاح رابعنا فسيّد مكاوي من هولاء القلّة التي أعشق من البشر الذين يسكبون الضحكة في الهواء، ويضيّفونك إياها ومتى ضحكت معهم ارتاحت نفوسهم، َطالما شعرت بالإطمئنان وبالثقة أمام من يضحك.
 
عندما خيّرته من أين نبدأ ذهب إلى عمق القلب، إلى نشأته في حيّ الناصرية في السيدة زينب وتحديداً حارة قابون، يحكي ولا يملّ، حارته بأصواتها وناسها كانت عالمه الذي استقى منه اللحن والنبض، واعتراف منه بأنّ الملحن الذي يسكنه أقرب إليه من المغني وفجأة أعطاني أن أختار فطلبت منه أن يحكي لي عن أمّه فبدا عليه ذاك التأثر الجميل الذي يوشي بحضور الطفل الذي فيه "كانت شمعتي في عتمتي ،كانت الجاذبية التي تشدني إلى الأرض فلا أتوه، كانت مائي الذي يروي عطشي،كانت كلما أشترت الإسطوانات القديمة لي من بائعي "الروبابيكيا" اخترعت لي السعادة". رحنا ننتقل من فكرة إلى أخرى وكان سيّد مكاوي يلتقط عودَه قاطعاً الكلام على غفلة مدندناً مطلع أغنية فيزيد من سحر حضوره وكانت زوجته تحتوي المكان فتنقل له المشهد حتى يتراىء لك أنها عيناه وبصيرته فلا يفوته شيء. مررنا على أسماء كثيرة من فنانين وأصدقاء وعندما وصلنا إلى فيلمون استفاض بموهبته وانحيازه لشخصه وأمطرنا بوابل من النكات والمواقف الطريفة الآتية من عشرته مع فيلمون، بعدها وكأن زوجته أحست بإرهاقه فأخذت من يده العود إشارة إلى انتهاء الحوار وطلبت مني أن أخبرهما عن بلدتي إهدن فرحّب السيّد بالفكرة ودخل في الإصغاء، أمّا أنا فكنتُ كمن قدّمتَ له هدية، أخبرته عن جبال إهدن الشاهقة الحائرة بين العراء والخضار، جبال تكتنز لعبة الضوء الأزلية، فتكتنز نفسها لتتبدل ألوانها بين الواقع والخيال، أخبرتهما عن غابتها وعن روعة المغيب فيها، عن وسط البلدة، ساحة الميدان، حاراتها والأدراج الطويلة التي تجمعها، عن قدم كنائسها، الأقبية الحجرية، بيوتها وناسها وكيف تفرغ من سكانها في الشتاء، وهنا أفصحت عن صعوبة الأمر على نفسي خاصة في صغري حيث كنت أصاب بكآبة عند مغادرتي لها فعلا صوت سيّد مكاوي حينها : "خلاص بقى أنا رح عيّط بحق" فأعادنا إلى اللحظة الأولى من اللقاء. واستدرجنا إلى ضحكة لم تكن لتنتهي وآخر الكلام كان لزوجته: "شكراً على هذا الرسم الجميل لبلدتك إهدن، أحببته حقا"، إستغربت عبارة الرسم منها إلى أن عرفت وبعد وقت طويل أن زوجته هي الفنانة التشكيلية القديرة زينات خليل.

لقاء أسعدني حقاً وزرع فيي طاقة إيجابية، حوار متأرجح بين الوجع والخفّة، بين النغمة والضحكة، بين القديم والحاضر، بين فرادة سيّد مكاوي وعوده، وبين أحضان زوجته وحبيبة عمره، لقاء لا ينتسى، أسترجع اليوم منه ما لم أذكره حينها وقد نشرت فحواه في جريدة النهار وبُثت مقاطع منه حينها في إذاعة لبنان الحر الموَّحد.

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium