باحت مايا عوض خلال ديوانها "عقود الياسمين" بالأمنيات النّضرة للكلمة، وقد أدّى هذا البوح إلى تفجّرٍ إيقاعيّ تلقائيّ لطيف.
هل أنّ واقعيّة الفرح الأنثوي في الشعر الحديث مع هذه الشاعرة، اكتشفت مسافات جديدة للفرح، والغربة السّاحرة والحضور الوردي المغتبط بين الكلمة والمشاعر؟
لم تتلاشَ حرارة الكلمة في الديوان، تلك الكلمة التي كتبتها للعشق والطفولة: "وأكْتُبُ على حيطانٍ عاشقةٍ/ لوَجْهِكَ الطُّفوليِّ/أُحِبّكَ..." (صفحة: 25). إنّ الشّاعرة بتسكعها في فضاءات الذّات ومسارات الوجود، أطلقت سروراً حدوده الأفق. ووضعها هذا الأمان أمام الحبّ الحقيقيّ السّاطع، فالحبّ في الوجود كالفرح لا ينتهي، وليس هو بأكذوبة صغيرة، إذا زُرعت كلماته في نياط القلوب بدل الأسى: "أيّها الفَتّانُ... الّذي يَزْرَعُنِي نَجْمَةً بَيْنَ أَحْرُفِ كِتاباتِهِ" (صفحة: 13).
ليس في شعر مايا عوض حداً، كي تتوحّد الحبيبة مع الحبيب في لا توحدهما المطلق، فقد كان في بوحها بهجة الالتحام، ضمن كتب العشق التي تحوي الكلمة الصّاخبة ببهجة المساحات الشاسعة والتاريخ: "وَنَسِيتَ أَنّي فَتاتُكَ الجَميلة/ شاعِرَتُكَ الصّغيرةُ/ الّتي سَكَنْتَ معها مُدُنَ التارِيخ/ كُتُبَ العِشْقِ... خَرائِط الجَمالِ..." (صفحة: 22).
الهمس يدوي في الفضاء، وسحر المساء لم يلاشِ من العقل صورة الأنثى الّتي أحبّها القلب ببراءة. وشكوى حزينة على شفاه جميلة في أذن سمعت آلاف التوجّعات في السّمر عبر الزمن. فكيف وصلت فلسفة الصمت إلى الحبيب، والقمر يدفن وجع الكلام في كثبان لا تحركها رياح؟!: "ما بالُك تَهْمِسينَ/ بِأُذُنِ القَمَرِ؟/ هَلْ تَسْأَلينهُ/ عَمّنْ سِيَخُطُّ/ حَرْفَكِ الشّاكي؟ (صفحة: 26)
تصل الكلمة الحالمة ضمن قصائد الشّاعرة، إلى أقصى لحظات التآلف والأمان. وتتحوّل غباشة الحياة إلى قبول مطلق بجماليّات المساءات، الممتدّة للعالَم الورديّ، وبشرى بلقاء أزلي بين الخيال وعطر الحبر: "أَنْتَ يَا عَبَقَ الحِبُرِ/ في مُخَيِّلَتي/ يَا رِيشَتيِ/ في عَتَبِ المَسَاءات..." (صفحة: 17).
ويتفجّر معنى الكلمة بصراع أنثويّ عفويّ غير مكتوم، وقد تحدّت الشّاعرة لغة العيون، بقدرة على لقاء الروح من خلال تعابير النظرات، وقد كانت جديرة بهذا التّحدي، فقد فازت بالحبّ عندما أدّت أدوات ترجمة الكلمة إلى الوصال: "أََمامَ رَسائِلِ الجَفْنِ/ الشّقِيِّ كلُّ أَسْلِحَتي/ رِيشَةٌ وحِبْرٌ وأَدْواءُ..." (صفحة: 38).
لم تته مايا عوض بين فرح السّماء والعشق على الأرض، هاتين الصورتين الشعريتين المحببتين لها. فكَمْ الورود وهيامها، أصبحا عشقاً من خلال الكلمة المكتوبة. بيد أنّ الصورة الشّعرية هنا امتداد بين أرض وفضاء، واستغراق بعشق ألوان الورود وعديد النجوم، وخصوصاً عندما يصبح التمنّي أن تكون الورود أكثر من نجوم السّماء: "أَعترف بِأَنَّ السَّماءَ تُزْهِر/ وَالوُرودَ تَهمي/ بِرَسائِل العِشْقِ..." (صفحة: 34).
هل نابت الرسائل عن الحضور؟ وهل اجتاح الشّاعرة حضور الحبيب بصمت الرسائل الصاخب بالشوق، على الرغم من فعاليّة الاجتياح؟ ههنا تتكرّر فلسفة الصّمت الصاخب لدى الشّاعرة، في درب الهوى اللانهائيّ وديوان الغرام: "يَجْتاحُني حُضوركِ/ رَيْحاناً وَرَسائِلَ عَبيرٍ..." (صفحة: 43).
وهنا القصيدة، حيث يتكئ جمال الطبيعة على ناصية الحرف بنضارة وسلام. فهل أنّ جمال الشّعر تربّع في نضارة الغابات، أو أنّ الشّاعرة استسلمت لغزو سحر الطبيعة الّذي لا مجال لمقاومته؟: "أُريدُ.../ أن تَكْتُبَ/ في قَصائِدَ/ منْ سَكْرَةِ الوَزّالِ..." (صفحة: 48)
الانقلاب الشّعري العربيّ الحديث، لم يكن انقلاباً شكلياً يقتصر على نسف الأوزان والعروض التقليديّة فقط، إنّما كان انقلاباً كلياً في عالم المعنى الشّعريّ، وتفجّراً مصيرياً يرهص بانطلاق الكلمة وتحررها من أسر الرتابة، ويجعل روح المتصفّح توّاقة للرقص والحبور مع كلّ شاعر بشّر بالرؤى الحضاريّة والاستغراق الرومانسيّ، حتّى ولو كان شاعراً غير متمرّس، وقد أصدر ديواناً واحداً مملوءاً بماهيات الوجود الإنساني كمايا عوض، هي الّتي دعتنا للرقص على حلبة القصيدة: "جُنونَ القَصيدَةِ/ يَدْعوني للرَّقْصِ" (صفحة: 41).