يجدّد محمّد سعيد احجيوج في روايته " كهف الألواح" الصادرة عن دار نوفل-هاشيت أنطوان 2024 تمسّكه بالعبث كمنطلق لبناء النّص، مستدرجًا المتلقّي نحو حال الشخصيّة وأحوالها، ممّا يجعل الموضوعة تتحوّل إلى موضوعات على شكل قطع Puzzle متباينة، تتنوّع ما بين التاريخ وعلم النفس والواقعيّة والنقد ومحاورة الذات.
الشخصيّة واحتفاؤها الدراميّ بذاتها
قدّم احجيوج "خلود العمراني" كشخصيّة متشبّثة بأحلامها وتخيّلاتها؛ ينطلق منها الحدث وتتحكّم بطبيعة باقي الشخصيّات وتموضعها في النّص وموقعها في السردّ، ممّا يعيدنا للوهلة الأولى إلى الأسلوب الكلاسيكي في القصّ المبني على راوٍ وحكايات وأبطال وبداية ونهاية. لكنّ احجيوج كسر هذه النمطيّة مجدّدًا من خلال الغوص في تفاصيل البناء الحكائي، بدءًا من إظهار ما يدور في فلك خلود نصيًّا "لكنّي أكتب بضمير الغائب سعيًا إلى موضوعيّة أكبر" (ص.15 ). هذا الغوص في عمق الصناعة السرديّة والتعريف بطبيعة السارد وأحواله يسجّل للكاتب، ويسجّل عليه في آنٍ واحد؛ أوّلًا من ناحية التلقّي، فهو يستدرج القارىء إلى تفكيك (هدم وبناء) الصورة القائمة حول طبيعة القصّ، فضلًا عن حثّه على توقّع سلوكيّات الشخصيّة ومحاولة كشف "اللغز"، التي تحاول إحاطتنا به. أمّا انعكاسه السلبيّ فقد ترجم من خلال الإطناب في شرح "اللاترابط" القائم بفعل العبثيّة، وكأنّ الكاتب تقصّد التلطّي خلف أفكار "خلود" المشوّشة، والمتراوحة بين التماهي مع الأحلام ومحاولة تسويغ ما حدث "للمفتش"، الذي لا يقتصر دوره على كونه ممثل سلطة فحسب، بل كونه "الأنا العليا" التي تُريد تفسيرًا وتوضيحًا لكلّ ما وصلت إليه خلود بعد سرديّاتٍ، أفقدتها التخبّطات الزمنيّة تماسكها "ألم أقل لك سيدي المفتّش كم هي غامضة أمور الذاكرة؟ إنّه فيلم بوليووديّ بامتياز" (ص.106 )
يعطي الكاتب الشخصيّة الحقَّ في رسم نفسها من خلال لاوعيها المبعثر، لتكون في مواجهة مباشرة مع نفسها وهواجسها المنطلقة من الجنس والماضي المؤلم، أو من خلال رمي الكرة في ملعب القارىء لفهم هواجس النصّ وربّما هواجسه.
تعدّد الموضوعات بين محاولة التشويق والطرح
استفاد كاتب رواية "متاهة الأوهام" من اضطراب الشخصيّة الراوية "خلود" ليخطف المساحات السرديّة التي يريد ويستثمرها من خلال طرح عدّة مواضيع أو ظواهر في آنٍ واحد. فالمثليّة الجنسيّة والشهوانيّة - على سبيل المثال - جاءتا مغلّفَتين بطبقتَي التخيّل؛ والحلم لم يكن سوى محاولة للانسلاخ عن ماضٍ مؤلم، تكلّل بالطلاق والعلاقات المبنيّة على الخذلان والتخلّي وربطها بشخصيّة إيزل التي تختصر التراجيديا وصناعتها "لا شكّ في أنّها تريد الانتحار، طريقة وقوفها غريبة، تراها خلود متردّدة..." (ص.17). لم تقتصر محاولة التشويق التي مال نحوها سرد احجيوج على الشخصيّات وأحوالها وطبيعتها وسرد خلفيّاتها النفسيّة والاجتماعيّة فحسب، بل تجاوز ذلك من خلال الدخول في التاريخ من خلال حكاية سارة، التي تحولت أماري، وحوّلت ردّ فعلها إلى إلغاءٍ لشخصيّات أخرى، سواء بفعل حبّ البقاء أم بهدف الانتقام من الماضي الجائر. ولادة شخصيّة سارة، التي تشكّل حلقة واحدة مترابطة مع خلود وإزيل، شكّلت من ناحية إضافة معرفيّة من خلال العودة إلى اليهوديّة والسلوك الأسريّ والنقد النمطيّ المستمرّ على بعض رجال الدين، الذين يبنون قيمًا تشبههم تحت اسم الكتب المقدّسة بغية الوصول إلى إشباع نزوة أو سلطة ما. وما حدث مع الحاخام وأماري "سارة" دليل يكشف طبيعة هذا النقد...لكنّ "إقحام" سارة، التي قد تكون طيفًا ينتمي إلى خلود وإزيل، أتى مشتِّتًا للمتلقّي، وإضافة بعيدة قريبة، أثّرت على محاولة المتلقّي نسج العلاقة بين خلود وإيزل وهشام "الروائي"، الذي عمل من خلال عودته إلى الماضي أيضًا على تكريس طرح قدّمه الكاتب عبر خلود بصيغ مختلفة "الذاكرة حسبما تعرّف خلود، ليست مخزنًا/مقبرة لردم التراب...لو أن الأمر كذلك فكيف سنصل إليها؟ كيف سنستخرجها من تلك المقبرة؟ "(ص.15-16 ).
تنطلق الموضوعات الحادّة إذن من الذاكرة ومحاولة فهمها وتعريفها كوعاء لاواعٍ يحتضن اللحظات نحو الأحداث، التي قلّت فيها الحوارات، وغلب عليها التواتر وإعادة المشهد في سبيل محاولة إعادة بنائه.
قدّم محمد سعيد احجيوج "كهف الألواح " كنصٍ خفيّ يبحث عن راويه الحقيقيّ، من خلال أفعال لاواعية لا تنتظر تفسيرًا، ممّا جعل الشخصيّة تحتفي بأزماتها ومناجاتها المتكرّرة، وأبقى النّص بين تشويق تصنعه طريقة تلقّي النّص من جهة، والعبثيّة التي تحرّض على خلق قصص قريبة وبعيدة من بعضها البعض.