النهار

حزمة من الضوء في ديوان الشّاعر يوسف السّندروسي
يوسف طراد
المصدر: "النهار"
حزمة من الضوء في ديوان الشّاعر يوسف السّندروسي
الغلاف.
A+   A-
حوى ديوان الشّاعر يوسف السّندروسي الّذي جمعه وأعدّه أبناؤه تخليداً لذكراه، ثلاثماية وثلاثة وثمانين قصيدة، موّزعة على سبعمئة وإحدى عشرة صفحة، ضمن غلاف أنيق، وصف خلالها: الذّكريات، والجمال، والشهادة، والعشق، والإنسانيّة...
 
انتمى الشّاعر يوسف السّندروسي إلى المدرسة البرناسية المطعّمة بالوجوديّة الفنيّة: "الفن للفن والجمال"، التّي تعملقت على أيادي كبار الشّعراء، وقد ألحّ في اتّجاهه هذا على ضرورة معانقة الشّعر للوجود، وانفتاحه على الفرح المطلق الّذي لا يمكن تحقيقه إلّا بالاتّجاه المباشر نحو مجتمع الريف وثوابت الوطن وخصائص الجمال في الطبيعة والفن والمرأة.
 
إن الطّابع الّذي ميّز شعره، هو الاندماج التّام بجميع معطيات الواقع، والانسياب مع الحدث، والرؤيا الشاملة لكلّ مناسبة قرويّة أو وطنيّة. وتحوّلت شاعريته الأصيلة وأحلامه المذهّبة إلى الانفتاح على فضاءات النفس الرحيبة، الفرحة والحزينة، في محاولة لمواجهة لعنات الوطن الّذي تحطّمت أحلامه على عتبات الأحزان. فقد جاء في مطلع قصيدة "لعنة وطن" (صفحة ٥٣٦):
 
وطني دهَتْكَ مصائبٌ لا ترحمُ/ فعلامَ يُهرق في مرابعك الدّمُ؟
 
تجتاحُ أرْضكَ نارُ حقدٍ مزمنٍ/ من فرط ثورته اللَّظى يتضرَّمُ
 
ويثور بركانُ الضغائنِ هائجاً/ فيدُكُّ أركان البلاد ويهدِمُ." 
 
غنّى يوسف السّندروسي المروءة المتجليّة في أبطال الوطن، وكانت محطّاته الموقفيّة والشعريّة انعكاساً للتضحيات، وتصويراً صادقاً للعطاء غير المحدود. وأظهر شعره تحدّياً صاخباً، يوازي كل مأساة تصدّى لها رجالات الوطن من جيش ودفاع مدني وغيرهم... وكانت الصفحة الأخيرة من مجلة "الجندي الّلبناني" وقفاً على قصائده الوطنيّة، قبل أن يتحوّل اسمها إلى "مجلّة الجيش". وهذا مطلع قصيدة من الديوان (صفحة: ٣١٤)، ألقاها في حفلة تكريم فوج الدّفاع المدنيّ:
"حيّوا المُروءَةِ، والإقدامَ، يا بشرُ/ نَفْحُ البطولةِ، في الآفاق، ينتشرُ
وباركوا النّخبةَ الشّجعان، مَنْ حمَلوا/ عِبءَ الكوارث، لَمّا اسّتفحل الخطرُ".
 
أطلق يوسف السّندروسي قصائد كثيرة لتأريخ أحداث قرويّة مهمة، واصفاً مدلولاتها العطائيّة، مؤكّداً في كلّ مرّة أهميتها في مسار المجتمع البرحليونيّ. فأضاءت قصائده على سطح الواقع، بعد أن غاص إلى الأعماق واكتشف السّر الجماليّ المطلق لكلّ رسالة إنسانية في الوجود:
 
"صوتٌ يرنُّ صداه في الأبعادِ/ متكاملُ التّرنيمِ والإنشادِ
يتلو على الأجيال سيرةَ كاهنٍ/ وَرعٍ مشى درب المسيحِ الهادي
يوبيلِ راعٍ وُفِّيتْ خَمسونَه/ وغَدتْ حياته قِبلَةَ الأشهادِ
منذُ الطّفولةِ والتّواضعُ زادُهُ/ ونقاوةُ الأخلاقِ خيرُ عتادِ"
هذه أبيات من قصيدة طويلة (صفحة: ٢٤٧) ألقيَت في اليوبيل الذّهبيّ للمنسنيور يوحنّا طراد.
 
لقد عبّر شعر الشّاعر عن إيمان بعبقرية الكلمة الشّعريّة، فجعل الجمال المطلق للحدث واقعاً، من خلال تناسق أنطولوجيّ، مما أدّى إلى الولوج في الذات الموصوفة بعمقها الجمالي الظاهر في عطائها، كما ورد في (الصفحة: ٣٠٢) خلال قصيدة تكريميّة للفائزين بالميداليّات الذّهبيّة في استديو الفنّ. (الفنانان: أنطوان الخوري مخايل عكّاري، وأنطوان جوزيف عكّاري). ومما جاء في القصيدة:
 
"كانت كفاءَتُهم للبحث خاضعةً/ أمام لجنة حكامٍ، هم القدَرُ
فأصدروا الحكم، إيجاباً، وأذهلهُمْ/ صوتٌ، ولحنٌ، وشِعرٌ سبْكُه الدّرر
نالوا النّياشين، تقديراً لطاقتهم/ قد رُصِّعت ذهباً، في الصّدر تُدّخر".
 
إن مجالنا الّلبنانيّ الحضاريّ لا يزال رهناً بقضية الجيل الجدير بالحياة في هذا الوطن، وهي قضيّة الصراع بين الماضي العقيم والمستقبل الموعود، فالحاضر ليس إلّا تشخيصاً لهذا الصراع وتحققاً أقصى لتناقضات المجتمع والاحتلالات. وضعنا الشاعر وجهاً لوجه أمام فلسفة وجوديّة شاملة تحققت من خلال مفاهيم الثورة، لماهية استمرار وجوديّة لبنان من خلال استشهاد أقلامه الداعية إلى ترسيخ الوحدة الوطنيّة. فقد ورد في مطلع قصيدة (صفحة: ١٤) نظمها إلى فقيد الوطن وشهيد الحرّيّة والاستقلال الصحافي جبران التويني:
 
"نَسّرٌ هوى مِنْ شاهقِ العلياء/ مُستسلماً  لمُصيبةٍ دَهماءِ
غدرتْ بهِ، عِند التّنقّلِ، زمرَةٌ/ فُطرتْ على الأحقادِ، والبغضاءِ
أودى انفجارٌ صاعقٌ  بحياته/ من عُبوَةٍ، زُرعَتْ بِكلِّ دهاءِ".
 
لكي نستطيع أن نخلق الحضارة الزاهرة، ونمجّد وطن الإنسان والإنسانيّة من خلال معركتنا الطويلة، وعبقرية كتّابنا وشعرائنا المتفتّحة، يجب على كلّ شاعر أن يغادر مجال فكره الماضي، ويسافر خياله إلى الأرض، والوطن، والمجتمع، والوطنيّة عشيقته الشهية الرائعة. كما ههنا، في ديوان الشّاعر يوسف السّندروسي، وقد لثم الأدب في قصائده صفو السّحر، وركض العمر في أنسها مثل الدرر.
 
مرّ قطار العمر، آخذاً معه مشاعر، وأحلام صبا وشباب، ولكي لا تكون الحياة ببهجتها وقوداً لمسيرته، ففي كلّ محطّة توقّف بها، وجد الشّاعر يوسف السّندروسي جزءاً من ذاته وأرشفه بقصيدة. وقد التقينا مرّة أخرى بحضوره المحبّب، كطيف من الماضي مرّ من أمام أعيننا، وكحزمة من الضوء منبعثة من ديوانه.

اقرأ في النهار Premium