سال مزيجٌ قانٍ من وريد مخيلة مارون بشارة، واختلط مع نزيف شعيرات الفرشاة، فانتصب صليبٌ على حدود بلدته راشانا، المشرفة على وادي "حربا" التاريخي. وأصبحت السّماء موصولة بالأرض.
لعلّ بشارة قبل أن يؤدّي الصّلاة بكنيسة، قد سكن بوادٍ شهد لجوء وجهاد الموارنة الأوائل. وما يعبر هذا الوادي من نسيم الشرق حاملاً شذا رائحة غابة أرز جاج، وعطر البخور المتصاعد من محابس نسّاك، ما هو إلّا خلفية للوحة، أقام فوقها بشارة كنيسة الإيمان برسالة استقدمها من ذاكرة مشبعة بتاريخ لم يتفلّت أو يغب.
أعاد مارون بشارة حياة النسّاك كما هي، بما فيها من عذاب واستشهاد. ولون الصليب في وسط اللوحة، دليل واضح على امتزاج دم الشّهادة مع نبيذ ذبائح غير دمويّة.
إنه رجلٌ بمخيلة راهب، يعرف كيف يكون الإيمان بمواقيت الخلاص، فبعد الصّلب والموت، قيامة وربيع. لذلك رسم جمال الطبيعة في أعماق اللوحة.
الأصفر في لوحة بشارة دليل ثابت على الاستشهاد، استقدمه بذاكرة مشبعة من زمن معركة المدفون بين الموارنة والسّلاجقة. فكلّ قطرة دم سقطت من راهب شهيد روت زهرة في ذاك الوادي، وتساوت رمزية شقائق النعمان بروحيّة أصفر الوزّال. وتعالت صلاة الشكر بعد الانتصار، وامتزجت بتفجّعات عشتار على حبيبها أدون.
نفح الرسّام بنضجه الإيمانيّ أطياف الجمال من زمنٍ كان، فقد أتت ألوانه ممزوجة بلطف شعيرات الفرشاة، متماسكة ومتشعبة المعنى. وبالرغم من عدم ظهور المسامير على الصليب، فقد رفع الرسالة وثبّتها، ما يُشعر الناظر إلى الّلوحة بآلام الصلب مع المصلوب.
لوحة التشكيلي بشارة، لا يمكننا قراءتها من أعلاها أو من أسفلها، لأنّ انفعاله المدموج مع اللون لا يحدّه إطار، ويتفجّر في العوالم الخياليّة للناظر إلى وسطها. فمركزها الصليب رمز الفداء وما يعنيه من وصل الأرض بالسماء.
لا يحكم إبداع بشارة إلّا الّلحظات الإيمانيّة، المشغولة بتضحية النسّاك. فهناك تداخل لامرئي بين أحاسيس عبرت أصابعه إلى الّلوحة من خلال الريشة، ومباخر رهبان فاحت منها رائحة البخور الممتزجة بضباب مقدّس تسلّق مخيلته بحدّة مدهشة. لذا بدت السّماء مدموجة مع الصليب، وقد غطّت بعض أجزاء خشباته نتفٌ من ذاك الضباب؛ ولم تختفِ وظيفتها بل حملتنا مع الآلام إلى عوالم علويّة، ازدحمت بأرواح روّادها البسطاء.
نفح بشارة في لوحته من وجدانه المتخم بكلّ التفاصيل: رائحة القداسة المشبعة بماء الخلاص وقد روى أزهاراً امتزج عطرها بقدسيّة المكان؛ ولون صليب ليس هو لون دم ولا لون نبيذ، بلّ هو نفحة عصير سُكِب في كأس عليّة صهيون، مزجه الإسخريوطيّون بخل رُفع على قصبة قبل أن يدنو من فم المخلّص؛ وطيف مار يوحنا مارون في وادي حربا، وما علق من رائحة قداسته على جدران كنائس رُفعت مذابحها على اسمه.
عاصفة جبّارة تصاعدت من ركن الصليب، حاملة معها البخور إشعاعاً. إنّها رمزٌ لحياة الخشبات، فقد جعلت الناظر إلى معاني اللوحة يدرك غابة الفردوس التي صُنع من أخشابها صلبانٌ للمؤمنين، على غرار أورشليم السّماوية بعد انهدام الهيكل. فتجسُّد الإله بإبنه، لم يثنِ الإنسان عن الحلم بالصعود إلى الربّ، داخل ممرٍ رسمه مارون بشارة بريشة من رياح.