إذا كان جبران خليل جبران قد أعتق الروح من هاوية أعماقنا المظلمة، فهنري زغيب جعل إحساس جمهور المصطفى الحبيب لحظة الفراق، ينتقل إلينا عند قراءتنا لترجمته كتاب "النبي" التي صدرت حديثاً ضمن منشورات دار سائر المشرق للنشر.
العارف بالأدب ومترجمه، كما الغارف بريشة يراعه من دواة توّاقة لترسيخ المعرفة. كلّما زقّ منه قطيّرات، كلّما تاق الورق إلى حلاوة بوحه. فترجمة الأدب الراقي ليست انعتاقاً من اللغة عبر نقلها إلى لغة أخرى، بل هي أكثر من ذلك، هي رياضة فكريّة وروحيّة، فيها متعة وشقاء الانتقال من أجل وضوح النصوص، خدمة لاستيعاب المتلّقي.
هنري زغيب، ذاك الشاعر المتمكّن من الشِّعر والأدب، بان من خلال ترجمته وكأنّه مسافرٌ بين الشّرق والغرب. ولم يكن سفره قسرياً، بل طوعيّاً، كهجرة الطّيور من الشّمال إلى الجنوب، وهي تعود إلى موطنها بخبرة زائدة وعافية أكيدة. وقد أعطى أهميّة مضاعفة لحوادث المسافة الجغرافيّة والزمنيّة والثقافيّة، وتعرّجات المجرى بين منبع الكتاب ومصبّه. لذلك تمثّلت ترجمته في حقيقة الاتّصال بواقع نصوص كتاب "النبي"، وليس بتقييدها. وقد ظهرت جليّةً مضاعفته لتحليل ذلك الاتّصال، بتوسيع وتعميق استيعاب فكر القارئ، ليجدّ البحث في دواخله، بحثاً عن حقيقة فراق المصطفى ووعده بالعودة: "... لذا ترجمت إِنكليزيّة جبران الأَمس بعَربية اليوم ورشاقتها وإِيقاعها العصري، بإيجاز بليغٍ أمينٍ لمبناها وأمينٍ للمعنى الجبراني في نسيجه التأْليفي لا اللغوي." (صفحة: ١٦).
عشنا كلّ لحظات حوادث كتاب نُشر عام ١٩٢٣، كأنّها الآن. فقد جعلنا زغيب نمتلك أحاسيس جديدة لتجديد المُهجة، وكأنّه أخضع الروح لدورة تأهيل أو رياضة روحيّة، عندما رمى ما يعيق تحليقها مع روحانية نصوص جبران. فكانت ترجمته وفيّة لرسالة المصطفى، وأسئلة وإصغاء السامعين. فاِتقان الوفاء في الأدب وبالأدب نوعٌ من الإبداع، بل هو الإبداع نفسه: "... ما مكَّنني من تصنيع أُسلوبي وصقْلِه وتنقِيَةِ ما فيه من غبار وثرثرة وتراكيب عتيقة مكرَّرة، بلوغاً إلى الإِيجاز البليغ فيضىْءُ لائقاً بِلُغَة العصر الحديثة، ضمن احترامٍ كاملٍ أُصول اللغة ونُظُمَها وقواعدَها." (صفحة: ٦).
إذا كانت المحبّة وضعاً من أوضاع الإنسانيّة، فالحبّ حالة من حالات الروح. فترجمة رجل دين لفكر جبران خليل جبران، تنطلق من منحى لاهوتيّ لخدمة الإنسانيّة. أمّا ترجمة شاعر لهذا الفكر، فتنبع من أريحيّة شعريّة تفيض بالشعور الجميل. فإذا كان الإرشمندريت أنطونيوس بشير، قد ترجم كتاب النبي منذ حوالي القرن من الزمن، انطلاقاً من الإيمان والرسالة الكنسيّة، فهنري زغيب ترجمه بالأحاسيس المرهفة التي يملكها كلّ شاعر، مظهراً المكنونات العشقيّة التي يتمتّع بها العشّاق. فالمترجمان ترجما مشاعر المحبّين، من هنا جاء الإشكال بالترجمة بين الحبّ والمحبّة. لأنّ كلمة محبّين تُطلق على حبيبين، أو على جماعة رسوليّة غايتها نشر رسالة المحبّة. ويبقى تعليل زغيب لترجمته لهذه الكلمة في مقدّمة الكتاب أقرب إلى المنطق، لأنّ الروح المتكلّمة عنَتْ الحبيبين ببوحها. ويبقى لكلّ قارئ رأيه في الموضوع.
كي لا يغدو لقاء المصطفى المرتقب انتظاراً أبديّاً على قارعة الزمن. وكي لا تصبح أسئلة المودِّعين أجوبة، ويتوه قارئ الكتاب بين حقيقة البدايات وإبهام النهايات، استسلم هنري زغيب إلى قدرٍ أحاك له أحلاماً مجنّحة، فترجم عصارة روحٍ تذوب شوقاً لطمأنينة لقاء عبر الزمن. واستيقظ إحساس القارئ على بساطٍ نُسج من سحر حروفٍ، لا يعرف جوهرها إلّا من ذاق لذّة هدفها.