إذا كانت رواية "صبيّ القجّة" مهداة إلى الفتى الصيداوي الّذي ألهم الروائي جورج يرق كتابتها، فإنّ هذا المقال مهدى إلى حملة "كتاب وقمح" التي يعود إليها ريع هذه الرواية، من أجل مداواة مرضى لا يملكون ثمن علاج لمرض السرطان، ومرض القصور الكلوي المزمن الّذي يُعالج بما يُدعى "جلسات غسيل الكلى".
إنّ حملة "كتاب وقمح"، تُعنى بقيمة الحياة البشريّة من الناحية الصحيّة والثقافيّة. بعد أن كان هدف تأسيسها مساعدة الفقراء من الناحية الاقتصاديّة في بداية الانهيار الاقتصادي الكبير في لبنان. لذلك تُعدّ هذه الحملة من الحملات التي ارتكزت على أيديولوجية ممارسة غير رسميّة، من أجل الإنسانيّة.
ليست حملة "كتاب وقمح" من نسج الخيال، كما قال جورج يرق عن شخصيات الرواية وهو يجتاز عتبتها، بل هي واقع وصفه بتفاصيله الدقيقة. وقد انتشرت مراكزها في معظم المحافظات والمدن والبلدات الكبيرة والصغيرة، ضمن عيادات أطبّاء ومكاتب ومكتبات ودكاكين... وقد لقيت إقبالاً مضاعفاً من العامة بسبب هدفها المتشعّب المتمثّل في مساعدة المرضى، وإعادة إحياء الكتاب الورقي، والتّشجيع على القراءة: "لم يتوقّع أحدٌ حدوث مثل هذا الإقبال على شراء الكتب في قرية صغيرة لا توجد مدرسة فيها. فمن شاء أن يتعلّم من أبنائها عليه الالتحاق بمدرسة في قرية مجاورة، يستغرق الوصول إليها بالسّيّارة نحو خمس عشرة دقيقة، ومشياً نحو ساعة" (صفحة ٤٢).
امتازت رواية "صبيّ القجّة" بالواقعيّة والسرد السلس، فقد صوّر يرق الإنسان وتفاعله الروحيّ بصدق. ولم يهمل أي تفصيل في حياة مراهق حَلم بشراء درّاجة هوائية، من مدّخرات كان يحفظها في قجّة من الفخّار. وكان الراوي أميناً في نقل صورٍ من الحياة والنشاطات اليوميّة القرويّة، مع إضفاء مثاليّة روحانيّة، ودراميّة واقعيّة على أحداث الرواية؛ من هنا يمكن أن ندرج الرواية ضمن الأدب الواقعيّ.
إذا كانت أهداف حملة "كتاب وقمح" ثلاثيّة الأبعاد، فأهداف الرواية عديدة. وكعادته أتقن يرق نقل الصور التربويّة من المجتمع إلى عالم الروي، واصفاً عل -سبيل المثال لا الحصر- طهارة أم فقدت زوجها في انفجار الرابع من آب، من خلال حلم صبيّ يتوق إلى الانعتاق من سرّ الأحلام إلى واقعٍ يسعى إلى تحقيقه: "حتّى إلى المنام تلحق بنا أمّهاتنا وهنّ خائفات علينا وساهرات على راحتنا." (صفحة ٦٠).
ولأنّ هذه الرواية موجّهة إلى عمر معيّن، بين مرحلة المراهقة ومرحلة الشباب، فقد كان الإرشاد البعيد عن الوعظ من أهم أهدافها. لأنّ الوعظ الذي يصمت عنه لسان القول وينطق به القلم واصفاً الفعل الحميد، هو إرشاد محبب في قالب روائي. فقد وعظ يرق المسيء بحسن أفعال شخوص الرواية، ودلّ على الجميل بحميد أخلاقهم: "وافق العمّ جبران مُرغماً، هو الذي لا تفارقه النّارجيلة طوال جلوسه على الرّصيف. وأنا كلّما اشتممت بطريقة المصادفة الدّخان الذي ينفثُه، شعرت بأنّني على وشك التّقيّؤ." (صفحة ٦٦).
يطالعنا في الآونة الأخيرة، على وسائل التواصل الاجتماعي ترداد متزايد وممجوج لمصطلح الثقافة الاجتماعيّة، ونقيضها الآخر أي ثقافة الفساد. فقد كتب جورج يرق هذه الرواية قبل ظهور ما يُسمى عصابة "التيك توك" التي اعتدت على الأطفال. وكان التسويغ الّذي أدلجه لثقافة الحياة، مبهجاً وحيويّاً، يماثل الإنسانيّة في زهوها ونضارتها وألقها. فقد أضاء على هذا السّلاح ذي الحدّين للفصل بين العطاء غير المحدود، والأنانيّة التي تقيّد النفس البشرية: "وعلمت أنّ حملة جمْعِ التبرّعات لسداد تكلفة علاجه قد انطلقت. إذْ اخبرني أخي بأنّه رأى في منصّة "تيك توك" إعلاناً في هذا الخصوص. (صفحة ١٤٣).
يجد قارئ رواية "صبيّ القجّة" خيطاً ثقافيّاً رفيعاً، يربط العبرة من ظهور شبح يقتل كل من ارتدى رداءً جديداً، ويسرق معطفه، بعد موت "أكاكي أكاكيفيتش"، بطل رواية المعطف لنيكولا غوغول أب الأدب الواقعيّ، وهدف مناداة زيّان ب"صبيّ القجّة" التي انطلقت من معظم أهالي بلدته، لهدف مدحه بعد تبرّعه سرّاً بمحتوى قجّته لأحد المرضى المصابين بالسرطان، والاستغناء عن حلم شراء الدّراجة الهوائية. فهذا هو جمال الأدب الواقعيّ!!
هل قرأ زيّان بطل الرواية، النص الإنجيليّ عن فلس الأرملة الوارد في إنجيل القدّيس مرقس، (مر ١٢: ٣٨_ ٤٤)، قبل أن يتبرّع بكلّ ما يملكه، أم أنّ نداء الإنسانيّة هو الّذي دفعه إلى هذا العمل بعد التفكير والتنفيذ سرّاً؟ لهذا انطبقت عليه الآية الإنجيليّة: "أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ." (مت 11: 25). خلافاً للمسؤولين الّذين يديرون شؤون البلاد والعباد، ويعتبرون أنفسهم من الحكماء والفهماء، وهم يقفون كالأصنام عند بداية كلّ احتفال رسمي، مستمعين إلى المقطع الأوّل من النشيد الوطني، غافلين عن معنى الكلام: "قولنا والعمل في سبيل الكمال". ولم يعملوا قط بموجب أقوالهم ووعودهم، والأمثلة كثيرة على ذلك.