من الواضح أن إدارة متحف سرسق تتوق أكثر من أي وقت مضى إلى الحداثة، أو لنَقْلِ تجارب أوروبية تحديداً، من خلال إقامة "كباريه سرسق" بنسخة واحدة -حتى الآن- تخلّلتها أمسية رقص بلديّ معاصر للكوريغرافي ألكسندر بوليكيفيتش برفقة فرقة موسيقية، الساعة الـ9،00 من مساء يوم الجمعة في الـ28 منه، في الباحة الخارجية للمتحف.
عكست هذه الخطوة، التي دعت إليها إدارة المتحف و"تعاونية فنون الأداء"، برمجة حيّة BAAH، وعتباً واضحاً من الباحثين الفنيين والناقدين التشيكليين المخضرمين سمير الصايغ ومهى سلطان، اللذين لا يملكان أيّ حكم مسبق على مكانة الرقص الأصيل طبعاً، بل كانا يتطلّعان إلى دور نهضويّ للمتحف (هو أمر ملحّ) في ظلّ واقع بيروت الجريحة، ولبنان المأزوم؛ وهو يتمثل بعودة "صالون الربيع" مثلاً إلى سابق عهده.
أولوية... أم لا
هل يُشكل "كباريه سرسق" اليوم أولوية في الروزنامة الثقافية عموماً، أو في أجندة إدارة متحف سرسق؟
بالرغم من تقديم عروض راقصة في الهواء الطلق في ساحة المتحف، فإن بوليكيفيتش كشف لـ"النهار" عن مبادرته إلى الطرح على مديرة المتحف كارينا الحلو إقامة "كباريه سرسق" ليكون منصّة للتعبير الحرّ، رافضاً كليّاً أيّ محاولة لتفريغ الكباريه من مضمونه، من خلال ربطه بالإسفاف، وفق ما يتم تداوله أحياناً عند العموم، موضحاً بأن "الكباريه لعب دوراً ريادياً في العالم، حيث بات ملجأ للفنانين والفنانات والمهمّشين والمهمّشات ليعبّروا بحريّة ضد القمع، والتصلّب والإجحاف؛ وهذا ما حدث في الحرب العالمية الثانية من خلال لجوء الأغلبيّة من أولئك إلى كباريهات سياسيّة للتعبير عن أفكارهم وهواجسهم".
الكويغرافي ألسكندر بوليكيفيتش (تصوير إبراهيم الديراني).
في ما خص فنّه، اعتبر بوليكيفيتش أنه "يملك رصيداً في الرقص البلدي المعاصر"، الذي سبق أن قدّمه على مسارح عالمية عدة، وهو فنّ ينبذ الإيحاءات الغرائزية الجنسيّة، ويعتمد على الأصالة، مع الإشارة إلى أنه سيقدّم في ريبرتوار حفل غد الجمعة، وهو يرقص ببذلة شرقية، مجموعةَ لوحاتٍ راقصة محترفة على وقع أغنيات طربية وكلاسيكية من وحي موسيقى الـ"بوب" المحلية".
أما مديرة المتحف كارينا الحلو، فقد شددت لـ"النهار"على دور المتحف في مساندة التعاونية من خلال إقامة هذا العرض، الذي يعود ريعه إلى دعم صندوقها، موضحة بأن "التعاونية تضمّ مجموعة من الفنّانين المستقلّين التوّاقين إلى إيجاد دعم لهم. وهذا بات ملحّاً لهم بعد واقع الانهيار الاقتصادي في لبنان وتداعيات انفجار مرفأ بيروت وجائحة كورونا على المهنة عموماً".
لا لكباريه في سرسق
ردّت على منتقدي "زجّ" تسمية "كباريه" مع متحف سرسق وإبعاده عن رسالته كأحد أهم مراكز الثقافة في بيروت، فأشارت إلى "أننا جزء مما يحصل في العالم كله، وتسمية الكباريه تعني فعلياً مكاناً للتعبير عن الفكر الحرّ".
اعتبرت أن "المتحف متمسك برسالته في الفن التشكيلي كأولوية مع انفتاحه على فنون أخرى كالمسرح والسينما والرقص، من خلال تجربة "كباريه سرسق"، ولو كانت ستقام بنسخة واحدة فقط".
نفت أن "يكون هذا العرض وسيلة لجذب الدعم للمتحف، لأن هذا المشروع يترجم عملياً من خلال تكثيف الاتصالات الدولية والمحليّة لهذا الغرض".
في المقلب الآخر، أوضح الناقد المخضرم سمير الصايغ لـ"النهار" بأنه لا يعترض البتة على الرّقص كفنّ بحدّ ذاته، بل يرى غريباً أن تربط إدارة المتحف الرقص بكلمة "كباريه"، وهي ذات معنى سطحيّ وسوقيّ، داعياً إياها "إلى وضع رؤية واضحة لبرنامج عملها".
ولفت الصايغ نظر مديرة المتحف إلى إمكانية تمثّلها بما قام به متحف اللوفر من ناحية دعوة كبار الشعراء لجلسة شعرية أثمرت إصدارات عدة، كما الحال مع كتاب "لوفر فضاء للأبجدية الآتية" للشاعر الكبير أدونيس.
أما الناقدة المخضرمة مهى سلطان فقد أبدت في اتصال مع "النهار" استغرابها الشديد لربط تسمية رخيصة كالكباريه باسم متحف سرسق، معتبرة "أن هذا الموضوع له إشكاليته، لا سيما أن مجتمعنا غير معتاد على هذه التسمية المرتبطة بمفهوم رخيص في لبنان".
شدّدت على تمسّكنا بدور "المتحف كذاكرة الفنّ التشكيلي في لبنان، وذاكرة غسان تويني وسيلفا عجميان وسواهما"، موضحة بأنه "لا يمكن أن نحكم على أداء الراقص ألكسندر بوليكيفيتش قبل حضورنا الحفل".
أبدت استغرابها للجوء "إدارة المتحف -في حال كان الأمر كذلك- إلى استقطاب الدعم من خلال هذا النشاط، لأن هذا الحفل لن يوفر إلا القليل القليل من الموازنة الضخمة للمتحف، ما يفرض إعداد رؤية واضحة واستراتيجية للمتحف لكونه منصّة أساسية للفن المعاصر والحديث".
[email protected]