النهار

جون بيرنسايد... "إيليوت الصّغير" الذي كسر الطّوق ورحل
المصدر: "النهار"
لم تكن مزحة أن جون بيرنسايد حزم أوراقه ورحل. كان يقول: "كل ما عليك فعله هو اختيار اليوم والطقس المناسبين، وستصل إلى مكان مخفي في ضوء الصباح حيث يتوقّف الزمن قبل وقت طويل من ولادتك". لكن الكاتب الإسكتلندي، الذي فاز بجوائز عالمية، بينها جائزة "تي أس إليوت للشعر"، وكان عضواً في لجنة تحكيم البوكر، لم يختر أوان رحيله. لم يودّع أولاده الذين "صانهم برموش عينيه ودفء قلبه"، هو الأب الذي أراد الإنتقام من ماضيه. من أب مدمن سلبه ذات طفوله أجمل هدية. دب صوفي بني بعينين واسعتين. احترق الدب بولاعة الأب الذي أراد تأنيبه على ذنب لم يرتكبه: أن يولد في عائلة عمودها الفقري ملتو. كانت والدته أكثر رأفة به، قبل أن يخسرها مبكرا بعد معركة مع السرطان. في مذكراته يتمنى "لو أنها عاشت لترى ابنها، الشاعر الكبير الذي احتفى به العالم، وليس ذلك المراهق الذي طرد مراراً من مدرسته، لأنّه غاوي نساء ومدمن في مرحلة وجيزة في حياته".
جون بيرنسايد... "إيليوت الصّغير" الذي كسر الطّوق ورحل
الكاتب الإسكتلنديّ جون بيرنسايد
A+   A-
رولا عبدالله 
 
   لم تكن مزحة أن جون بيرنسايد حزم أوراقه ورحل. كان يقول: "كلّ ما عليك فعله هو اختيار اليوم والطقس المناسبَين، وستصل إلى مكان مخفيّ في ضوء الصباح حيث يتوقّف الزمن قبل وقت طويل من ولادتك". لكنّ الكاتب الإسكتلنديّ، الذي فاز بجوائز عالميّة، بينها جائزة "تي أس إليوت للشعر"، وكان عضواً في لجنة تحكيم البوكر، لم يختر أوان رحيله. لم يودّع أولاده الذين "صانهم برموش عينيه ودفء قلبه"، هو الأب الذي أراد الانتقام من ماضيه. من أب مدمن سلبه ذات طفولته أجمل هدية. دبّ صوفيّ بنّيّ بعينين واسعتين. احترق الدبّ بولّاعة الأب الذي أراد تأنيبه على ذنب لم يرتكبه: أن يولد في عائلة عمودها الفقريّ ملتوٍ. كانت والدته أكثر رأفة به، قبل أن يخسرها مبكراً بعد معركة مع السرطان. في مذكّراته يتمنّى "لو أنّها عاشت لترى ابنها، الشاعر الكبير الذي احتفى به العالم، وليس ذلك المراهق الذي طُرد مراراً من مدرسته، لأنّه غاوي نساء ومدمن في مرحلة وجيزة في حياته".
 
 
لم يكن بيرنسايد مثاليّاً، أو خارق اللطف والروعة. كان حقيقيّاً فقط. "واقعيّ في شعلة إنسان"، هكذا وصف حياته الأدبية، هي في ذلك المكان من الفوضى بين الأمس واليوم، بناها بمداميك اللغة والكلمات. والأهمّ الكلمات: "الماضي جميل لأنّنا نزيّن جدرانه بتعابير حلوة. لنأخذ مثالاً على ذلك، يمكن للحيوان أن يعبّر عن ماضيه بمواء أو خوار، برعشة تسري في جسده أو تحرّك عموده الفقريّ. بالنسبة إلى الإنسان، لا يمكن وصف الماضي إلّا بالكلمات. اللغة أساس وبناء عمر بحاله. هي خدعة لكنّها تنظّم العمر والكون بأكمله. تضلّلنا إلى الاعتقاد بأنّنا نعيش على مرأى من مساحة عقلانيّة، وتناغم محتمل".
في التاسعة والستّين رحل بيرنسايد، أو "إيليوت" الصغير، ومعروف أكثر في بريطانيا بأنّه "نوبل الشعر". لم يمهله مرض دهمه على غفلة حتّى يكتب القصيدة الأخيرة، أو الرواية الأخيرة، أو البحث الأخير، أو يضبط علّة في حاسوب، أو ينعش نبتة فتيّة متهاوية، ذلك أنّه في حياته لم يكتب فحسب بل أراد أن يختبر كلّ المهن ويخوض الحياة حتّى آخر جنون: "عامل بسيط في مصنع، بستانيّ، مصمّم لأنظمة الحاسوب، أستاذ الأدب الإنكليزيّ في جامعة سانت أندروز، شاعر وروائيّ وكاتب مذكرات". حسبه فقط أنّ الحياة مثل الشعر، لا تنجح في أن تكون متعالية أو معقّدة أو مبسّطة جدّاً. لنفرض أنّها أكثر رونقاً حين نشكّلها بعفويتنا: "في بعض الأحيان، عندما أعود إلى المنزل في الصباح الباكر، أتخيّل أنّ الأمور قد تغيّرت أثناء غيابي، سكّين على لوح الخبز لا أتذكّر أنّني تركته، أو كتاب مقلوب على الطاولة، أو كوب مليء بالشاي ومياه الأطباق في الحوض. لم يكن من الضروري أن تكون الأدلّة التي أردتها معقّدة أو مفصّلة للغاية. كان في إمكاني بناء حياة أخرى كاملة من نصف قمر، من قشر الليمون، أو نقطة صغيرة من المربّى على مفرش المائدة".
 
 
وما بناه في أربع عشرة مجموعة شعرية وأحد عشر عملاً روائيّاً، وثلاث مذكرات، واقف على الشوار بين عالمين. غنائي ساحر مأخوذ بالطبيعة التي كان بستانياً في عالمها. وهو واقعيّ حزين على عالم آخذ في الجنوح نحو نهضة تورث مشكلات قاتلة في حقّ البيئة: "يباهي الإنسان بطواحين الهواء لأنّها مثمرة في الحقبة الصناعية، مع أنّ وجهها الضاحك يخفي آلة قتل لأجمل طيورنا. تغتالهم الطواحين ولا يبقى من أثر للكروان وغيره سوى ذلك الريش المتطاير في الهواء. ترامب قال أنّ توربينات الهواء ليست نعمة. عندنا في شمالي اسكتلندا نقتل الطيور. وفي النروج، تُدمّر مزارع الرياح العملاقة طيور الرنة في طريق الهجرة المبتورة".
 
كتابة الشعر في حياته موسيقى. النثر للنثر والموسيقى للشعر. أمّا "ابن عرس"، فإنّه يحتوي على شيء من غضبه "المشرق". هذا الغضب الذي تحرّر من الفانوس ردّاً على والده المدمن، متّخذاً أكثر من شكل: "اختبرت في مراهقتي عقاقير الهلوسة. لو لم أتناول عقار "أل أس دي" لما خرجت من مراهقتي سالماُ. معها ذهبت إلى عالم آخر من الإدراك والأحاسيس. أحياناً نحتاج إلى الجنون لنكتب الوجع بالكلمات، بعيداً عن الجدّية التي يقرأ بها المذيع البريطاني ديفيد أتينبورو نشرة الأخبار. لنفرض أنّه ألقى قصائدي، لرميتها في الحال في سلّة المهملات".
 
 
في مذكّراته "كذبة عن أبي"، حاول بيرنسايد التصالح مع ماضيه ووالده. ومن خلاله سعى "افتراضياً" إلى قتل "توماس هكسلي"، أستاذ علم التشريح المؤيّد للينين ونظرية التطوّر لداروين وحامل شعار: "البديهية أساس العلم الحديث، فاتبع عقلك، في مسائل العقل، إلى أين ما أودى بك من دون اهتمام لأيّ اعتبار آخر، ولا تتظاهر في مسائل العقل بأنّ الاستنتاجات مؤكّدة وغير مثبتة أو قابلة للإثبات".
وبقتل "تومي" على صفحاته، انتقل إلى الكتابة عن "معنى أن تكون رجلاً قوياً: "لقد كتبت عن أبي لأنّني كنت أحاول أن أفهم ما غرسه في داخلي، على الرغم من أنّني لا أصدّق ذلك بأيّ طريقة عقلانية: أنّ العنف يعني القوّة. لكن على الرغم من أنّه كان قاسيًا وصعبًا، إلّا أنّه لم يكن قويًا. عندما ضربته الأشياء أصبح هشًّا جدًّا. الرجال الأقوياء الذين عرفتهم كانوا في كثير من الأحيان عاطفيّين جدًّا، كانوا يسكرون ويبدأون بالبكاء في الحانات، في حين أنّ النساء اللواتي ارتبطن بهم كانوا أقوياء حقًّا، يربطون الأمور ببعضها. أمي مثال على ذلك".
في الأربعين تزوّج بيرنسايد. لم يعد مقامراً، ولا سكّيراً، ولا ذاك الذي يسير مترنّحاً في الشوارع من حانة إلى أخرى. عقلنه الزواج. وباعتراف أولاده له: "لقد كنْتَ أباً مبالغاً في الاهتمام، مهووسًا بنا".أراد الانتقام لماضيه، للدبّ الذي أحرقه والده، بالعفو عمّا مضى. بأن يصلح ما أفسده الآخر في حياته. وهكذا أمضى بقية حياته: "كنت متفرّغاً للكتابة وأستاذاً أكاديميّاً يربّي الأجيال على قاعدة "التكيّف". نصحه طبيبه النفسي ذات زيارة: "تكيّف". وحاول ذلك، في عملية بتر لذلك الجانب الغريب الأطوار منه، ومنذ اقتضى بالنصيحة، تحوّل من شاعر إلى أكاديميّ لأجل أولاده: "أقصيت الإدمان وخبّأت السودوكو لوقت الحنين". تحوّل إلى إدمان من نوع آخر، إدمان الكتابة.
 
 
معقّدة وصعبة. توصيف أوجز به النقّاد أعمال بيرنسايد الأدبية، لكنّ الأخير يراها "أسلوباً في الكتابة منضبطاً للغاية". باعتقاده أنّ على الكاتب الحقيقيّ ألّا يجاري أهواء من يريدون أدباً يسهل "هضمه" في مترو الأنفاق أو في جلسة رومانسيّة على شاطئ البحر. وكم أوضح في مقدّمات مؤلّفاته: "إذا أردتم أدباً من هذا النوع، حتماً لا تشتروا الكتاب. قد تجدون مرادكم في القواميس: المصطلح ومرادفه".
 
العالم بلا بيرنسايد. كتبت "الغارديان" مستذكرة الكاتب الإسكتلنديّ، الذي امتدّت مسيرته المهنية لأكثر من 35 عامًا: " لقد كان واحدًا من ثلاثة أشخاص فقط فازوا بجائزتَي الشعر الأكثر شهرة في المملكة المتّحدة عن الكتاب نفسه. في عام 2011، فاز بجائزة "تي أس إليوت" ومن ثمّ جائزة "فوروارد" عن مجموعته الشعرية "عظمة القطّة السوداء" (Black Cat Bone)، إضافة إلى جائزتَي "تيد هيوز وشون" و"أوبراين". وكتبت عنه رئيسة لجنة تحكيم جائزة "إليوت"، كاتبة السيرة الذاتية هيرميون لي، في ذلك الوقت: "كان يكتب كلّ أنواع الكتب التي يمكن تخيّلها - وبعض الأنواع التي لا يمكن تصوّرها - لمدة 35 عامًا على الأقلّ". وأضافت: "إنّه يلقي تعويذة بلغة ذات جمال عظيم وقوّة وشعر غنائيّ وصدق. هناك الكثير من الحزن والألم والرعب والعنف الكامن في أعماله: إنّه كاتب قويّ ينجح في سبر أغوار الأماكن المظلمة في العقل البشريّ - لكنّه أيضًا مضحك وإنسانيّ للغاية".
 
 
في التاسع والعشرين من أيّار الجاري، تحرّر بيرنسايد من "الطوق"، وهي المجموعة الشعريّة الأولى التي صدرت عام 1988، تاركاً إلى جانب السرير مجموعة من مؤلّفاته التي أراد من خلالها استعراضاً خاطفاً لحياته. الحياة التي ضمّنها بين دفّتَي "معرفة عامّة" (1991)، أسطورة التأم" (1994)، "السباحة في الطوفان" (1995)، "الجار الطيّب" (2005) وعظم القطّة السوداء" (2011)...

اقرأ في النهار Premium