النهار

النهار

"طِفْلةُ قَصْرِ ٱلْمُسْتَديرَةِ"
المصدر: "النهار"
"طِفْلةُ قَصْرِ ٱلْمُسْتَديرَةِ"
A+   A-
ليليان يمّين
 
منذُ ستةٍ وأربعينَ عاماً وفي شَريطِ الذّاكِرَةِ، صورَةٌ عالِقَةٌ لِشَقْراءِ الشَّعْرِ، إبْنَةُ الثَّلاثِ سَنَواتٍ، طفلةُ قصرِ الْمُسْتَديرَة. كانَ شُعورٌ مِنَ الطُّمَأْنينَةِ ٱلأبَديَّةِ، يَرْبُطُني بِأُمّي وَبَعْضِ النّسْوَةِ، اللّواتي كُنَّ يَعْشَقْنَ صَغيرةَ ٱلْقَصْر،ِ كَما أَهْلَهُ، وَيُبالِغْنَ بِسَرْدِ أَخْبارِها وَمَشاعِرِهِنَّ، حَتّى صارَتْ شَقْراءُ الشّعْرِ، بَطَلةً لِرِوايةٍ طُفولِيَّةٍ حَالِمَةٍ.

كانَتْ رَغْبَتي في رؤيةِ الصَّغيرَةِ، قدْ بَدَأَتْ تَزْدادُ، وَكانَ شَهْرُ أيْلولُ، شارَفَ على ٱلإنْتِهاءِ، عندَما رَأيْتُ شَقْراءَ الشَّعْرِ. كُنَّا في السَّيَّارَةِ، نَتَّجِهُ إلى مَدينَةِ الشّتاءِ، لَحْظَةَ أشارَ السّائقُ إليها وَتَباطَأَ تِلْقائياً. كانَتْ تَسيرُ عَلى الطَّريقِ ٱلْعامِ ٱلْمُؤَدّيَةِ إلى قَصْرِ ٱلْمُسْتَديرَةِ، بِرِفْقَةِ امْرَأَةٍ، عَلِمْتُ في ما بَعْد، أنَّها إحْدى ٱلْخادِمات. كانَتِ الصَّغيرَةُ حاضِرَةً بِقُوَّةٍ، فُسْتانُها ٱلأحْمَرُ، وَحِذاؤها ٱلأسْوَدُ ٱلْلَمَّاعُ، وَالشَّعْرُ ٱلأَشْعَثُ حَدَّ ٱلْكتفَين يَعْلو وَينْخَفِضُ قَليلاً، رُبَّما لأنّها كانَتْ تَسيرُ على رُؤوسِ قَدَمَيْها، وَما يُساعِدُها في ذلكَ، أنَّ ٱلْمَرْأةَ كانَتْ تَرْفَعُها قليلاً مِنْ يَدِها. عندَ اقْتِرابِنا منها كانَ نَظري قد اشْتَدَّ أكْثَرَ، لأنّني عَلِمْتُ حينَها أنّنا سَنعودُ وَنَبْتَعِدُ. في تلكَ ٱللّحَظاتِ السّريعةِ، حَصَلَ أمرٌ رائعٌ، فقد أرادَتِ ٱلْمَرْأَةُ وَضْعَ ٱلقُبَّعَةِ على رأسِ الصّغيرَةِ مَخافَةَ حِدَّةِ الشَّمْسِ، ما أثارَ غَضَبَ شَقْراءِ الشَّعْرِ، فَرَمَتِ ٱلْقُبَّعَةَ أرْضاً بِشَيْءٍ مِنَ ٱلْغَضَبِ الّذي لامَسَ ٱلْبُكاءَ، حَرَكَةٌ، إحْمَرَّ مَعَها وَجْهُ الصَّغيرَةِ، وَارْتَجَفَ لها قلبي، كانَ مَنْظرُها على قَدْرٍ كَبيرٍ مِنَ ٱلْجَمالِ، وَشَعَرْتُ بِرَغْبَةٍ كَبيرَةٍ في مُعانَقَتِها، إلْهائها، وَرُبَّما إضْحاكِها.

وَمَضى الشّتاءُ، وَاقْتَرَبَ مَوْعِدُ ٱلْعُبورِ، فَأنا مِنْ بَلْدَةٍ، يَعْبُرُ أهْلُها صَيْفاً إلى ٱلْجَبَلِ الْعالي عُبورَ ٱلْغَيْمِ ٱلأبْيَضِ وَأسْرابِ الطّيورِ، عُبور نحنُ ذَواتنا، حيثُ ٱلْمِياهُ تَأْتينا يَنابيعَ وَٱلْمَنازِلُ تَفْصُلُها عَشَراتُ ٱلأدْراجٍ ٱلْحَجَريّةِ، أحْراجُ الشّرْبينِ ٱلْمُعْتِمَةِ لَيْلاً، فيما أنْتَ تَجولُ فيها، لِتَطْلَعَ مِنْ رَأْسِكَ مُشْرِقَةً إلى ذلكَ ٱلْجَبَلِ الضَّخْمِ، الصّامِدِ، شاهِداً أزَلِياً على ٱلْلُعْبَةِ الضَّوْئيةِ ٱلْكَوْنِيَة. لَوْحَةٌ تَجْريدِيّةٌ تَكْتَنِزُ ظِلالَ ٱلْغَيْمِ وَغَبْرَةَ ٱلألْوانِ.

في مَطْلَعِ ذلكَ الصَّيْفِ، لَمْ يَكُنْ عُبورُنا كَالْمُعْتادِ، كانَ حَزيناً مِلْؤُهُ ٱلْبُطْءُ وَالتَّرَدُّدُ، فَقَدْ طالَتْ يَدُ ٱلْعُنْفِ بَلْدَتي ٱلْجَبَلِيَّةَ، وَماتَ مَنْ كانَ هُناكَ، بِمَنْ فيهِمْ شَقْراءُ الشَّعْرِ، ماتَتْ طِفْلَةُ قَصْرِ ٱلْمُسْتَديرَةِ.

هناك في الكنيسة السيّدة كان جسدها المدد والمثقوب بطلقات كثيرة جرحا امتزج بأوردة الحجارة ،ذهبت عيناي إلى يدها اليسرى،بيضاء نقية،نقاء الآتي من عند الله،أصابع لم تعد تلتقط الحياة فقط تنضح بالوجع الذي سكن القادم من الأيام. أَذْكُرُ أنَّني لَمْ أحْتَمِلْ هذا ٱلْكَمَّ ٱلْهائلَ مِنَ التّفاصيلِ يَتَناقَلُها ٱلْكِبارُ، وَأَحَدُهُمْ لا يَلْحَظُ وجودي. شَعَرْتُ كأنّما السَّماءُ وَقَعَتْ على رأسي، كانَ ٱلْموتُ الّذي اكْتَنَزَ ٱلْجَسَدَ الصَّغيرَ أكْثَرَ غُموضاً بِالنّسْبَةِ لي مِنْ حَياةٍ كامِلَةٍ. رأيتُ ما رأيت وأَعرفُ الآن أنني فقدت السمع لدقائق.ألْقَلْبُ أثْقَلُ مِنْ قَمَر،ٍ وَالصَّوْتُ عُصْفورٌ قَدْ تَمَّ تَمْزيقُهُ فيما كُنْتُ أسيرُ بِاتّجاهِ ذاكَ النّهْرِ، لَقَدْ كانَ النَّهْرُ وَكَنيسَةُ القديسة بربارة ٱلْوادِعَةُ بِقُرْبِه أبْعَدَ نُقْطَةٍ أعْرِفُها، وَيُمْكِنُني أنْ أذْهَبَ إلَيْها دونَ أنْ أتوهَ. هناكَ عَرَفْتُ شُعوراً بِالفراغِ ٱلْكامِلِ، شُعورَ مَنْ سُرِقَتْ أعَزُّ مُقْتَنَياتِهِ.

عندَ عَوْدَتي لَمْ يَكُنْ أحَدٌ أعْرِفُه يُشْبِهُ حالَهُ، دَخَلَ ٱلْجَميعُ في حالَةٍ مِنَ ٱلْهَسْتيرْيا ٱلْجَماعِيَّةِ، كانوا يَسيرونَ في الشَّوارِع، كَمَنْ أصابَهُمْ مَسٌّ، يُرَدّدونَ أسْماءَ الضَّحايا عالِياً حَدَّ الصُّراخِ، وَقَدْ شَرَّعَتِ ٱلْخِيانَةُ أوْجاعَهُمْ ذِراعاً بَعْدَ ذِراعٍ، وَبِالأَكُفِ يَضْرِبونَ صُدورَهُمْ، يَبْكونَ شَيْخاً، أُمّاً، وَيَبْكونَكِ يا شقراءَ الشَّعْرِ، يا عَيْنَ الذَّهَبِ، يا صَغيرَةً كَنَجْمَةٍ بَعيدَةٍ.

وَكَبُرْنا نُواصِلُ ٱلْعُبورَ وَشَقْراءُ الشَّعْرِ ما عادَتْ طفلةً أُغْرِمْتُ بِها، باتَتْ طِفْلَةَ ٱلْحُلُمِ ٱلْمَكْسورِ ٱلْمُتَناثِرِ على مَدِ السِنين.

وَحَدَثَ بِالأمْسِ، أنْ أيْقَظَ صَوْتُ ذاكَ ٱلْمُغَنّي ٱلأَبَويِ الدّافِىءِ طِفْلَةَ الْلّهَبِ الّتي في داخِلي، كانَ يُغَنّي: "عنّا وْلادْ زغارْ بينامو بَكّير، لا تْطِلّو عَ بْناماتُنْ هَاوْ بيخافو كتيرْ..."، وَالصَّوْتُ يَنْهَضُ شَجَراً في ٱلْبالِ، وَكانَ أنْ بَكَيْتُ بُكاءً، لَمْ أَعْرِفْ لَهُ مَثيلاً، بَكَيْتُ عَلى طِفْلَةٍ تَرَكْتُها تَسيرُ في الشّمْسِ، فذهبَتْ إلى ضِفافٍ أُخَرٍ، وَظَلّتْ هناكَ دائمةَ الطّفولَةِ، وأعْرِفُ أنّني بَكَيْتُ على الطّفْلَةِ الّتي هِي أنا، طِفلةٌ اكْتَنَزَتْ تلكَ ٱلْمَشاعِرَ ٱلْمُؤْلِمَةَ وَٱلْمُتَضارِبَةَ، طفلةٌ كَبُرَتْ تُحِبُّ ٱلأطْفالَ وَدائمةُ ٱلْقَلَقِ عَلَيْهِم، كأنَّما ٱلْخَوْفُ عِنْدَها مِنْ مُفْرداتِ ٱلْحُبّ.

الكلمات الدالة