يوسف طراد
المتفحّص للجغرافية التّي احتضنت الشاعر عبدالله شحاده، وكانت مهبطاً لوحيه، غالباً ما يتساءل كيف حدث اللّقاء بينه وبين روحانيتها، وكيف كان هذا السّيل من الإبداع الشّعري والنثري، وكيف حدث عبور هذا الشّاعر المرفق بمئات القصائد التّي اكتنزت مختلف أنواع الصور الشعريّة الوصفيّة والوجدانيّة؟ هي تساؤلات تحيلنا مباشرةً على سُبل غرس القيَم العليا في الوسط المجتمعيّ. فحين يكون الشّاعر في أرضٍ كأرض "اللّبنان" يكون الإبداع مضاعفاً.
كانت مسيرة الشّعر عند شحاده ضرباً من صناعة الفكر وإنتاج الدلالات، وكانت فيها علامات دالّة على "اللّبنان" كمكان مثاليّ للحياة الكريمة. فقد رسّخت هذه المسيرة أنطولوجيّة الحقيقة، وهذا ما تعيه جيّداً النخبة المثقّفة من اللّبنانيّين، في سعيها الى المحافظة على هذا النموذج الفريد من العيش منذ الأزل.
شكّل فعل العبور عبر القصائد عند شحادة من ملكوت الدنيا إلى الفضاء الفكري اللامحدود خارطة أنطولوجيّة شاملة، وهو عبور حدث بفعل اللّغة الغنيّة بالمعاني المتدفّقة، من قصائد احتوت على صوَرٍ خصّت الطبيعة الجميلة والعلاقات الإنسانيّة بعامّة، بهدف تعرية الشوائب وكلّ ما يهدّد الإنسانيّة، في مقابل بناء السِّلم الروحيّ واستنباط علاقات صادقة بين البشر. ولعلّ "اللّبنان" وما أضافه الى الوجود الكوني عبر تاريخه، هو خير هذا الوحي، بجغرافيّته التّي حُمِّلت مسؤوليّة العالم كونها قبلة البشر جميعاً، لتميّزها بشجرة الأرز الموصوفة بإسهاب في دواوين الشاعر. وهذا مقتطف على سبيل المثال لا الحصر من قصيدة هي أوّل ما نطق به من شعر عام 1923، وقد وردت في الصفحة 299 من المجموعة الأولى:
"أرزَنا دُمْ في هناءٍ مستمِرْ/ للمعالي تَسْتَنِرْ كلُّ البَشَرْ
ناشِراً رايات فخرٍ للورى/ فوق طَودٍ ملقِياً فيهِ العِبَرْ..."
شكّل الوطن اللّبنانيّ -ارضاً وتاريخاً وتراثاً وحاضراً ومستقبلاً- محوراً مهمّاً في المجموعة الكاملة لشعر عبدالله شحاده، المؤلّفة من ستة مجلّدات من ضمنها مجلّد التمهيد. هذا الوطن "اللّبنان"، نظراً الى الأدوار الكبيرة التي لعبها، ولا يزال يلعبها، حلقة لقاء الشرق مع الغرب ضمن جغرافية التفاعل الثقافي بين الحضارات، ما أهّله تاريخيّاً، لأن يكون مُحرِّكاً للأحداث الكونيّة التي ساهمت من قريب أو من بعيد في تغيير خارطة الشرق منذ القدم. وتلك مؤهّلات جعلت وتجعل منه أرضاً تعيش الحدث مع توالي الأزمنة، بديناميّة لم تعرف الاستقرار إطلاقاً إلى يومنا هذا. وقد عبّر شحاده عن هذه الحالة في مواضع عدّة من المجموعة الكاملة التي سعت ابنته المهندسة والشاعرة الأستاذة ميراي شحاده حداد إلى جمعها، وإصدارها ضمن منشورات "منتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحاده الثقافي" الذّي تترأسه. فممّا ورد في هذا الصدد في الصفحة 316 من المجموعة الأولى ضمن قصيدة "لبنان هل تنقضي أيّام نكبته؟":
"...لبنان هل تنقضي أيّامُ نكبتِهِ/ ويبسم السّعدُ عن آماله حينا...
لقد كفانا أنينًا من ظلامتِكم/ وقد كفاكُم عويلاً من تَشَكّينا..."
في سيرته التّي حملت عناوين الإنسانيّة والوطنيّة، لا يبدو الشعر لدى شحادة مجالاً محفوظاً من أحداث مضت فحسب، إنّما هو استمراريّة ذاتيّة مدموجة بطبيعة "اللّبنان"، مما جعل شعره قادراً على أن يمدّ القارئ بالوطنيّة الحقّة:
" لبنانُ كم من علَّة
يشفي هوى آكامِهِ
لا تختشي من نَكبَةٍ
فبالبُرْءُ في أنسامه" (صفحة 198) من المجموعة الثانية.
الغرض من موضوع "اللّبنان" وجودياً في الثقافة، هو البحث في مدى حضور هذا الوطن في أقلام الشّعراء، وعيون الفلاسفة، وعلماء الاجتماع والتاريخ، لأجل رفع المعاناة اللّبنانيّة رفعاً عقلانياً، ومعرفة موقف الشعر والنثر كخطاب وكأنساق مشروطة بالتساؤل والنقد، وتبيان المفهوم الشعري غير التقليديّ من هذا "اللّبنان" من زوايا عدّة. فالشّاعر شحاده تملّكه روح النضال ومعانيه من الوجد اللّبنانيّ، ومن أجل جميع المظلومين فيه الذّين باتت حقوقهم عرضة للسلب والنهب، كتب الشعر ونظمه. وقد عُرف أدبه شعراً ونثراً بالشموليّة في تناول جميع الموضوعات والمناسبات الوطنيّة:
"...وجرحُ لبنانَ أعيا نُطْسَ ساسَتِهِ/ وبات طَيفُ المَنايا في مآقيه
لا يبزغ الفجر إلّا عند تُرْبَتِهِ/ على جُموعٍ من الأحرارِ تَبْكيهِ..." (صفحة 157) من المجموعة الرابعة.
أمّا الكيانيّة اللّبنانيّة، فلا تشيخ، وثمة من يحيّدها عن مفهومها الأساسي، هي التّي نسج الشعر والأدب عالمها عبقريّةً وصموداً، لذلك بقيت حالة دائمة بسبب التمسّك بها وإقرارها من أدباء وشعراء أمثال عبدالله شحاده، حتّى ولو فعل السّاسة فعلاً مغايراً.