الأحد - 08 أيلول 2024
close menu

إعلان

الرواية اللبنانيّة بين الواقعيّة والروحانيّة

المصدر: "النهار"
يوسف طراد
الرواية اللبنانية.
الرواية اللبنانية.
A+ A-
الباحث في الرواية اللّبنانيّة التي عرضت قضيّة الوطن، بأبوابها المتعدّدة، وأنواعها، وأجيالها المتعاقبة، منذ إنشاء دولة لبنان الكبير، يواجه حالة من الاطمئنان الأدبي التي لا يمكن مقارنتها بحال الانقسام والتشتّت التي تعانيها القضية اللّبنانيّة سياسياً، وإيديولوجيّاً، وجغرافيّاً.
 
وقد يكون هذا الاطمئنان طبيعيّاً، في ظلّ عرض الواقع روائيّاً خلال فترة من تاريخ لبنان الحديث الذّي جمع الحيرة بين الانضمام إلى المملكة العربيّة، أو إلى لبنان الكبير، وبين حرب اللّبنانيّين في ما بينهم وحرب الآخرين على أرضهم، وبين الهجرة الطوعيّة والتهجير، وبين اللجوء القسري واللجوء غير المضبوط.
 
ولعلّ السعي إلى رسم خارطة للمشهد الروائيّ اللّبنانيّ الحديث، قد يبدو سهلاً، فالخارطة الروائيّة لا تشبه الخارطة الجغرافيّة اللّبنانيّة بحدودها السائبة التي حكمها الاحتلال أو الوصاية، وتحكمها الهيمنة. فالموقف الروائي جلب التقارب بين الأقلام في الرأي وعرض الواقع والوقائع من دون إعطاء منحًى سياسيّ لأحداث الرواية إلّا لماماً أو تلميحاً.
 
هكذا يبدو المشهد الخاص بعلم الروي، محتوياً حوادث مكانيّة وظرفيّة متعددة، وأسلوباً يضمّ أفكاراً متقاربة تختلف فيما بينها بحسب قدرة الراوي، وسرده الابداعيّ. وعليه إنّ ضبط الذاكرة اللّبنانيّة التي تجمع بين روايات الكتّاب، هو نفسه الخيط الذّي يجمع أجزاء الوطن المشتت، والمترامي الشتات بين المشرق والمغرب، وبين الانتماء والاستقالة من الوطنيّة، وليس الاعتكاف عنها.
 
هذا الخيط الرفيع، والمتين على رغم دقّته، يؤكّد التوافق السياسيّ بين كتّاب الرواية، ويَسِمْ ما كُتب وجرى فيها من أحداث خياليّة أو حقيقيّة. ويمكننا القول إنّ كثيراً ممّا كتبه روائيّون ملتزمون سياسيّاً، لا يختلف كثيراً عمّا كتبه روائيّون غير ملتزمين. وهذا يعود إلى طبيعة الإيديولوجيّات المتنوعة المهيمنة على الثقافة عند كلّ شريحة من الكتّاب تجتمع على حبّ الوطن، لذلك نلاحظ أنّ الوجدان الجماعي هو واحد.
 
على سبيل المثال، إذا كانت رواية "للجبل عندنا خمسة فصول"، لأيقونة الأدب الروائي الحديث ماري القصيّفي قد قدّمت صورة بانوراميّة لأحداث ما تزال في البال، وقد سَلِمت روايتها بالإجمال من النقص السرديّ، هي التي صوّرت الأحداث كما جرت، بأريحية أدبيّة قلّ نظيرها. فالواقعيّة خيّمت على هذه الرواية بشكل كامل، مع دلالات سياسيّة بعيدة المدى أعادتنا إلى معارك الموارنة والموحّدين الدروز التي جرت عبر التاريخ كواقعة "الحجل"، من دون أن تأتي على ذكرها، بل ذكرت التهجير الأخير من جراء المعارك في ثمانينيّات القرن المنصرم فقط، وقد وصفت تغلّب نداء الدم على نداء العقل. هي التي كتبت الأدب السياسي غير الروائي من خارج الاصطفافات التي كانت مفروضة على الساحة اللّبنانيّة، وأصدرت كتاباً بعنوان "الموارنة مرّوا من هنا"،، منتقدة فيه أداء السياسيّين بشجاعة ومن دون خجل أو وجل، وبواقعيّة فرضتها الأحداث، وقد دفعت بسببه ثمناً باهظاً في مسيرتها التربويّة، وخسرت وظيفتها لكنّها ربحت مصداقيتها.
 
أمّا رواية "كفرشليم" للدكتور ميشال الشمّاعي، فقد طغت عليها الروحانيّة، وكانت أحداثها من وحي الخيال. فنقلنا الشمّاعي بواسطة أحداثها من المدى الجغرافي الديمغرافي إلى المدى الروحاني، لأنّه وضع وحدة قياس جديدة للمسافة خلال الرواية، غير السنة الضوئيّة وأجزاء المتر ومضاعفاته، كونه استنبط المسافة المسبحيّة، وهي المسافة التي يقطعها المؤمنون أثناء صلاة المسبحة الورديّة، وقد وردت أحداث كثيرة تنمّ عن الروحانيّة خلال السرد الجميل المتقن، بالإضافة إلى هدف الرواية في إظهار الكيانيّة اللّبنانيّة، بواسطة حبكة وعقدة وحلّ فريدة من نوعها. هو الذّي وضع دراسة من خارج الأدب الروائي بعنوان "القضيّة اللّبنانيّة في فكر شارل مالك" والتي خسرناها وخسرنا ردحاً ليس بقليل من عمر هذا الوطن، من أجل القضايا الكبرى المتعلّقة بغيرنا.
 
ميشال الشمّاعي الملتزم حزبيّاً، اتّصل أدبه الروائيّ الروحاني مع أدب ماري القصيّفي الواقعي، بخيط الذاكرة الوجوديّ والوجدانيّ الذّي يجمع بين أجزاء الوطن. هو نفسه الخيط الذّي يربط بين أدب واقعي بامتياز كروايات صدرت حديثاً مثل رواية "خيي جيديوس" لمارلين سعادة، وكان الحضور المتواتر للقدر بدرجات مختلفة داخل الرواية، علامة من علامات التراجيديا في نصوصها القصصيّة التي اشتبكت بدورها بعلامات أخرى، وهو الزمن الذّي لم يتغيّر إلى الآن، ممّا اضفى عليها المتعة، ورواية "غابة الضباب" لشربل شربل وكان ضمنها ثمّة حضورٌ للزمن، المنقسم ضمن جغرافيّة الوطن بين المركز والشريط الحدوديّ، والذّي تمنّى عليه شربل التوحّد، من ضمن دلالات مخفيّة داخل ضميره المشبع بالوطنيّة، في تعبير صريح زخرت به النصوص بمضامين إنسانيّة، عن فردوس مقسوم لكنّه قابل للجمع مجدداً إذا اجتمع اللّبنانيّون على هدف واحد تحت راية الوطن. وغيرهما من الروائيّين الذّين كتبوا الأدب الروائي بكلّ صدق، كلوريس الراعي، وسامي معروف وماري المقدسي وعمر سعيد... هو الخيط نفسه الذّي جمع الروايات المذكورة بالأدب المخضرم الذّي يتكلّم عن التاريخ، كرواية توفيق يوسف عوّاد "الرغيف"، ورواية "الناجون" لرمزي توفيق سلامة وغيرهم... وهو الخيط نفسه الذّي منح المواطنيّة معنىً تجاوز البعد الزمنيّ، جامحاً بين ماضٍ اختلفوا على تدوين تاريخه، وحاضرٍ مأزوم ومستقبل مجهول.
 
ربّما لم تصل الرواية السياسيّة اللّبنانيّة إلى دور النشر، على الرغم من أنّ معظمها يحتوي على الأحداث اللّبنانيّة، وثمّة من يعزو ذلك إلى أنّ الروائيّين اللّبنانيّين يعتبرون لبنان درّة الأوطان، ولا يؤمنون بأنّ السياسة تنال منه على الأقل ثقافيّاً. ولئن كان لا يخفى ما في مثل هذا التعليل من تقديم حجج لإنتفاء الأدب الروائي السياسيّ، فالأهم -وللأسف- أنّ لبنان وصل إلى حالة فرضت المكوّن التراجيدي بقوّة على الرواية، كروايات غسّان كنفاني الذّي قال عنه الناقد الدكتور علي نسر في أمسية ثقافيّة خصّها لنادي الكتاب اللّبنانيّ، بأنّه "قاوم بالرواية وفي الرواية". فهل أنّ شهرة الكنفاني متأتية من مركزه السياسيّ أم من عالمه الروائي؟
 
على العموم، إنّ الروائيّين اللّبنانيّين الذّين وقعوا في حبّ لبنان، ولم يبحثوا عن أشياء ناقصة في دواخلهم ضمن أوطان بديلة، قد أعطوا كلّ شيء للوطن من إحساس مرهف، وخيال خصب، وإبداع، وروحانيّة وواقع.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم