حَبَكَ الأب سايد قزحيّا شبكة من وحي الروح، وجعلنا دائمي التفكّر بأحجية الحياة، وتعقيداتها. وألهم القارئ طريق الخلاص وهو في استكانة نفسه كمريض أشرف على نزوع الاحتضار، وجعله في وضع يأبى أن تكسره مدلهمات سيرورته الأرضيّة في سمت المادّة الزائلة مقابل أنوار الروح الخالدة.
تحتاج المادة التي وضعنا فيها قزحيّا إلى قراءة متأنيّة، حتى تتجلّى وضوحاً. فعلى الرغم من علم الكاتب وجهده الكبير المصبوب تعليلاً وإرشاداً في صفحات كتاب "من أجل كلمتك ألقي الشبكة" الصادر ضمن منشورات دار نعمان للثقافة، والذي يُشعل حرائق الروح في طريق عودتها إلى التوبة، فقد سار في سماوات تعاليم كنيسة الروم الملكيّين الكاثوليك، وأضاف من إيمانه وليس من علمه، مساحة إلى القلوب المعذّبة، لأجل تطويع المدمنين على الشرّ، كونه أوضح فعل الخلق وحكمة ومحبّة الربّ. وجعلنا نتيقّن أنّه لا سبيل لمشاهدة وجه الخالق سوى بالصلاة وفعل الخير والرجاء، وليس بحفظ الوصايا وحسب.
محطّات عديدة استفاقت عند القراءة، لأنّ الكتاب قد عرض تأمّلات في جميع الأناجيل التي تُتلى خلال أفخارستيا الآحاد والأعياد السيّديّة لكنيسة الرّوم الملكيّين الكاثوليك. فكان كلوحة جميلة توقظ الوعي النائم على سرير الملذّات، وتغدق على المتلقّي كثيراً من الصفاء والنقاء الذي منبعه الإيمان.
وضع قزحيّا النظريات البشريّة والمفاهيم الإنسانيّة على طاولة التشريح من جديد، وقادنا إلى الحفر المعرفي في سياقات ودلالات الكتاب المقدّس. تلك النظريّات البشريّة التي اكتسبناها عبر الزمن، وأكسبناها هالة القداسة، واعتبرناها حقائق مطلقة لا يجوز مسّها أو التعرّض لها من أجل منهج الحكم وتنفيذ الأحكام، قد أصبحت لاغية في حضرة النظم الإلهيّة التي لا تُحدّ: "لقد أراد بيلاطس معلومات بشريّة على حقيقة إلهيّة، فكيف ليسوع أن يشرح له أموراً تتطلّب الارتفاع عن العالم، والارتقاء إلى العلو لإدراك الأزلي، كيف له وبيلاطس متمسّك بالأرضيّات!" (صفحة: 38).
أخرج الكاتب مشروعيّة الجدل المعرفيّ من الخاصيّة الفكريّة، وجعلنا نعترف بقصورنا عن إدراك المفاهيم، في حين أنّ نطاق تفكيرنا يظل يدور في حلقة الخوف من المجهول. فالثوابت العقليّة على مستوى البشر، تظل بحاجة إلى قولبتها بروح الإيمان لكي نقارب الارتقاء الروحاني، من دون أن نستجمع في ذاتنا القدرة أو التصميم لتخزين المعرفة. فعندما نتبع أحاسيس راقية ونتشارك الفرح الإلهيّ نرتقي إلى الألوهيّة: "رفع يسوع مستوى العيش اليوميّ إلى مستوى إلهيّ" (صفحة: 60).
النمو الروحيّ هو نعمة نورانيّة، وهو اكتمال الفكر من عظيم الإيمان الذّي تتدفّق منه ينابيع الحياة الأبديّة. وها أنّ قزحيا قد أعتقنا من حلمنا بتغيير العالم، والتفرّد بوضع ذاتنا الفانيّة داخل جسد يحمل الخطيئة، وعندما يتحرر هذا الجسد من الخطيئة، يُشفى وتُشفى الروح. لكن شهادة الشفاء تصدر من الروح وليس من الجسد: "وبدأ يشهد على قدرة يسوع على إعادة خلق الإنسان، معترفاً به كنبيّ. وبموقفه هذا، أبرز الأعمى أهميّة الشهادة الجريئة والثّابتة للإيمان." (صفحة: 270).
إنّ كنيسة الرّوم الملكيّين الكاثوليك، هي كنيسة شرقية بشركة مع كنيسة روما، طقسها بيزنطيّ وتتبع التقويم الغريغوري الغربيّ. وتقويم السّنة الطقسيّة أو اللّيتورجيّة لدى هذه الكنيسة الذي يتبعه المؤمنون، يبدأ في الأول من شهر أيلول ويُختتم في الحادي والثلاثين من شهر آب كلّ عام، وتُعرف بداية هذه السنة باسم "الإنذكتي" أي "حداً من الزمن". وبعد بداية هذه السّنة، يبدأ زمن ما بعد الصليب الذّي يمتد على مدى سبعة عشر أسبوعاً، خلافاً للسنة الطقسيّة المارونيّة التي تبدأ بزمن الميلاد، وتفتتح الكنيسة السريانيّة المارونيّة هذه السنة بأحد تجديد البيعة وتقديسها، في أوائل شهر تشرين الثاني من كلّ سنة. وتُختتم السنة الطقسيّة المارونيّة بزمن الصليب الذّي يبدأ في الرابع عشر من شهر أيلول "عيد ارتفاع الصليب"، حتى الأحد الأخير من شهر تشرين الأوّل ضمناً.
وعلى الرغم من اختلاف السنوات الطقسيّة لدى الكنائس الشرقيّة والغربيّة، في التوقيت وفي نصوص الأناجيل التي تُتلى خلال الافخارستيّا -على سبيل المثال لا الحصر: في بداية الصوم العظيم، لدى كنيسة الرّوم الملكيّين الكاثوليك يتلو المحتفِل بالذبيحة نص دعوة فيلبس ونثنائيل (يوحنّا: 1: 43- 53)، أمّا في مطلع الصوم لدى الكنسية السريانيّة المارونيّة فيتلو نص عرس قانا الجليل (يوحنّا 2: 1- 12)- فإن العبادة المسيحيّة في جوهرها ترتكز على شخص المسيح من حيث تجسّده، وموته على الصليب، وقيامته، وصعوده إلى السماء، بانتظار مجيئه الثاني. فالذّي يقرأ كتاب "من أجل كلمتك ألقي الشبكة" للأب سايد قزحيَّأ يتأكّد بأنّه قد ألقى شبكته في المكان الذّي أمر المسيح تلامذته أن يلقوا فيه الشبكة، وشبكة قزحيَّا ستأتي بخلاص الكثير من الأرواح من داخل وخارج الكنائس الساعية إلى الوحدة. لأنّه وضع السنة الطقسية لكنيسة الرّوم الملكيّين الكاثوليك ضمن طابع إرشادي تربوي أساسي، بأسلوب سلس بعيدا عن الوعظ غير المحبّب، واستجمع حياة السيّد المسيح الخلاصيّة في سنة واحدة شبيهة بالسنوات الليتورجيّة لبقية الكنائس من حيث المضمون، وليس من حيث الشّكل. ومن هنا نستخلص أنّه ليس من أمرٍ يعيق توحيد الكنائس الشرقيّة والغربيّة.