ليليان يمّين
لم تكنْ ولادةُ رامي مجرّد يوم ابتهجَ له القلب أو صبي سينمو أمام نظري. جاءت ولادته من جهة الحياة الرابحة، لم أكنْ حينها قد عرفت الخيبات، مخيّلتي نظيفة وإرادتي تسبقني، لا وقت لدي للأحلام فالأيام خارج عقارب الساعة. جاء رامي صرخة تأكيد على هذا الجمال الفائض الذي كان يسكنُ نظرتي إلى العالم.
شاء والداه أختي الإعلامية ماريا وزوجها الشاعر جورج يمين عدم معرفة جنس المولود، فإن كانَ المولود ذكرا سيدعى رامي وإن كانت أنثى ستدعى حنان، إنتظرنا مفاجأة جنس المولود ليفاجئنا رامي بأخرى فرغم الوالدين السمراوين وكذلك معظم الأنسباء فإذا بنا أمام طفل ذهبي الشعر وأبيض البشرة.
لن أحكي عن رامي الكنز لدى والديه، بل كجزء من حياتي حيث لم تكن السنوات العشرون التي تفصلنا عائقا أمام انسجامنا الكبير، لعبنا، افترشنا الأرض، جمعنا الأرقام وركبّنا الأشكال،أ شعلنا النار وعمّرنا الخيم. أحبَّ رامي الكرة و"القمر بالون شوط"، أحبَّ طبيعة اهدن، فكنّا نقتني أوراقَ الحور اليابس ونلصقها على الجدران.
تورطتُ معه مرّة عندما سمحتُ له بتسلٌق التلة الملاصقة لحائط كنيسة مار جرجس الضخم، فعلق عند ذاك الممرّ الضيّق حيث الإلتفاف إلى الوراء مستحيل والتقدم مربك، تجمّع الجيران وإضطرب الجميع، كان ذلك لحظةَ مرور العلامة الأب يوسف يمين الذي طلب من الجميع الإبتعاد والتزام الصمت مؤكدا أنّ رامي سيتدبر أمره وحيّاه مكملاً طريقه ليكملَ رامي طريقه أيضا. في المساء شكرني رامي الصغير وأخبرني أنه لم يكن خائفاً لحظة توقفه وبأنّ الرجل الذي حيّاه ذكي، وأخذ يشرح لي بما معناه أنه توقّف كي يعيشَ اللحظة ويحدّد مشاعره تجاهها. هكذا رسم رامي نظرتي له فأنا دوماً أراه بمطرح العارف.
كان الصبيّ الصغير حرّ الطباع كأنّ هالة تحيط به ولا يمكنك خرقها متى شئت فكان أحيانا من انزعاجه وشعوره بالضيق يضربنا نحن المقرّبين منه وحصل مرّة أن بكيتُ بسبب انفصال يخنقني وعندما سألني متفاجئاً إذا كانت ضربته لي هي السبب أجبته بنعم، كانت المرّة الأولى التي يراني أبكي والمرّة الوحيدة التي أكذب عليه بها، تراجع آسفاً وأجابني بهدوء كبير بأنه لن يعاودَ مطلقاً هذا الأمر وهكذا حصل، لم أكنْ فخورة بفعلتي ولكن ما فعلتُ كان لرغبتي بتجنيبه انتقاد العابرين.
الولدُ المسالم، القريب من كل ضعيف، لا يفقدُ صوابه إلا متى تعرّض أحدهم لماهر أي لأخيه الأصغر. عرف بالفطرة كيف ينسج رابط الأخوة حيث الحب المطلق إلى جانب التحفيز القائم على احترام خصوصية ذات الآخر.
كان في سن العاشرة وبينما كنا نبالغ في التعبير بمقاييس الحب فنضرب الملايين بالمليارات حتى قلت له " أنا أحبك+ l'infini"، فاستوقفه الأمر وأدرك خلفية الربط بين الأرقام والمشاعر، وهكذا راح يكبر قارئاً استثنائياً في مجال الفلسفة والسياسة والرواية وطالباً شغوفاً في علم الرياضيات. وعلى "cover" صفحتي الفايسبوكية من عنده "الرياضيات هي أن تنظرَ إلى الحقيقة وتسأل: ظلُّ مَن هذا؟". وجد رامي في القراءة ملاذه ورداً على ذاك الغامض المتسرّب لعنده هو الذي خسر والده في عمر الثماني سنوات.
لنا حوارات لا تنتهي، أبرزُها تلك التي يبدأ بها لحظة إقلاعنا من زغرتا بنهاية الاسبوع بإتجاه منزلي في طبرجا استعداداً لذهابه في صباح الغد إلى الجامعة الاميركية كطالب في الرياضيات والهندسة معاً. كانت أفكاره صارمة، يرميها مع براهين علمية ومعيوشة، نبضه صلب لا يخلو من نبرة غضب شفاف. أمّا أنا فكنتُ اذهب بالحوار إلى نظرية النسبية حيث كل شيء خاضع للتبدّل والمواقف عرضة للتحولات فيعتبر ذلك استسلاماً من قبلي وفي معظم الاحيان نستكمل الحوار في المطبخ وفي كل مرّة يتوقف عن الكلام لأنني برأيه فقدتُ الإصغاء فينصرف منتقداً.
سافر رامي إلى اميركا ونال من أبرز جامعاتها الدكتوراه في علم الرياضيات وهو اليوم باحث إستثنائي يخوض غمار الذكاء الإصطناعي. لم يعدُ امام نظري وحلّت مطرح حواراتنا الطويلة محاولاتي في إضحاكه وكأنّ رنين السعادة معلّق بين فكيّه.
ما اشعر به تجاه رامي لا يليق به إلاّ الصمت ولكني كائن ضعيف لذلك أكتب مع شعور لاحق واكيد بالندم، فكل مرور خيانة لمشهد آخر. لكنّ اليقين انّ رامي كان وسيظلّ الوجه الآتي من جهة الحياة الرابحة التي تهبكَ الهواء وتنهض بك.