في عملها الروائي البكر "لا شيء أسود بالكامل" الصادر عن دار هاشيت أنطوان-نوفل (ط.1. 2024)، تخاطب عزّة طويل نفسها بالدرجة الأولى من خلال العنوان، الذي يتجاوز طابعه الخبريّ نحو التحريض على رسم المرأة وملامحها المتباينة، وصولًا إلى التقاء اللغة بالأمومة، لنكون بذلك أمام "نوفيلا" تمسك بين دفتيها السائد من ناحية الرؤية الاجتماعيّة القائمة إلى المرأة من جهة والمتغيّر من الناحية البنية السرديّة للنّص.
اللغة والولادات اللانهائيّة
على مدى 23 فصلاً مكثّفاً، يتناوب خلالها على السّرد/القصّ الراوي والشخصيّة الأساس، تفرد طويل مساحة واحدة لتتكلّم على المرأة وأمومتها الثابتة في داخلها، سواء أكانت زوجة/ أخت/ تلميذة/ حماة... ممّا جعل اللغة إضافة إلى سلاستها ولّادة لأفكار وهيكليّة تتركّز على شكل طبقات يمكن مقاربتها دلاليّاً. فالحوارية الطاغية على مجمل النص ابتعدت عن وظيفتها التقليدية الرامية إلى تقديم إيضاحات وتفسيرات حول النص وجوهره، واقتربت أكثر من الطابع المسرحيّ الذي يبدأ بالعيادة النفسيّة ولا ينتهي في المقبرة. والحقّ أنّ اللغة أيضاً ولّدت عنصراً تجديديّاً تركّز من خلال أمرين: الأوّل جعل قصّة الراوية "أم سارة" ترتبط بنساء كثيرات إلى حدّ التشابه والتوأمة، سواء بأمّها أو بحماتها "أم شادي"؛ وهو ما يسوّغ عدم منح الراوية اسماً؛ أمّا الأمر الثاني فتركّز من ناحية الهيكليّة. فالفصول الـ23 لم تشكّل ارتباطاً زمانيّاً بل كانت كتلاً سرديّة تتّخذ طابعاً قصصيّاً يكاد يمحو الفارق بين الرؤية المصاحبة للسرد والرؤية من الخلف. يقودنا هذا المنوال، الذي مشت على إيقاعاته الكاتبة، إلى بناء الشخصيّات على أساس ديناميّة التعبير لا على أساس المسار والمصير "كنت أهجس بعبوس أمّي فقط، وبالحزن الذي سيليه (ص.20)/ بعد هذه الحادثة بسنوات أفزعني كثيرًا خبر موت جهاد...(ص.41 )".
كشفت اللغة أيضاً عن التشنجات الاجتماعيّة التي تلاحق المرأة، وذلك من خلال العودة إلى الماضي، سواء من ناحية السرد أو من ناحية توظيف الأفعال الماضية؛ فقضيّة حضانة الأمّ، وإظهار الطابع الذكوري للرجل، ولّدتها اللغة الحكائيّة بعيداً من نمطيّة الصراع بين الرجل والمرأة والشتم والتجريد من الرجولة، بل تموضعت عند حكاية الأم التي تهرب بابنتيها من الذكوريّة المتجوّلة في حقل متحضّر حرّ وآمن (باريس) إلى الأمان المحفوف بالحرب (بيروت) "إمّا أن أركب هذه الطائرة وإمّا أن أضيع في شوارع باريس...يخطط ليتزوج...قد يموت وتبقى ابنتاي معها...(ص.90).
تشكّلت اللغة عند عزّة طويل فإذن انطلاقًا من الطابع الحكائي المباشر المتعلّق بالفرد وطبيعته (المرأة وواقعها وحركيّتها) ممّا جعلها بعيدة من الإطناب والمراوغة.
الشخصيّات الأنوثيّة والأفكار الإشكاليّة
نجا نصّ عزّة طويل الأول من فخّ الإسهاب في الإضاءة على فترات سياسيّة واجتماعيّة تكرّرت معالجتها روائيًّا، أي الحرب الأهليّة اللبنانية والحرب السوريّة، ممّا أفسح المجال أمام الشخصيّات الأنثوية للتعبير عن الرؤية الاجتماعيّة القائمة إلى المرأة من جهة، ورؤية المرأة إلى العالم ومفاهيمه من جهة ثانية. فالشخصيّة الأساس تعاطت مع الحياة ومقوّماتها (الحب/ الجنس/ الحرب/ الصبا...) من منطلق حكائيّ تصويريّ "كانت ثمّة حميميّة ما، تزيدها حدّة تلك الأبنية بالذات." (ص.49)/ "يقولون إنّي ولدتُ في أعنف أيّام بيروت، بمجرّد انتهاء مجزرة صبرا وشاتيلا" (ص.69 )/ دخلتا الملعب المخصّص لألعاب الكرة بكل أنواعها..."(ص.75 )، بينما كان التعاطي مع المفاهيم ذات الإطار الفكري والسلوكيّ ببعد إشكاليّ، خاصّة الموت الذي ترجمته طويل من خلال مشاكسته للحياة والتمسك بها "في مدينة مثل بيروت على المرء التروّي قبل اتخاذ قرار الموت. أمّا في الضيعة، فالأمر أسهل...كما أن التربة أشهى."(ص.17)، "يخيل لي أن الناس مجرّد عصافير...يستمرون في الغناء إلى أن يقعوا بين يدي من يسلبهم حناجرهم" (ص.78). وكذلك العقل الذي تشكّل مفهوماً إنطلاقاً من مبدأ تجريبي مبني على ولادته صفحة بيضا وقابل للتأثر" سألت نفسها: لماذا أرضع ابنتي كلّ هذا الأسى؟"(ص.76 ).
دمجت الكاتبة بين التمرّد على الهويّة وكسر وثنيّة ترسّخ العداوة بين الزوجة وحماتها آمال، فأظهرت "أم شادي" كشخصيّة أساسيّة تعبّر عن اللانتماء إلى الخراب "فأبوها سوريّ أبًّا عن جدّ، لكنّها كانت مصرّة على أنّها لبنانيّة" (ص.65) "منذ انتقالها إلى لبنان بعد مجزرة الحصويّة... ومعانقتها الروحيّة للكنّة "هياكي خلصتي من سوريا وصرتي بلبنان طنشي/ما صدقت طلعت يا حبيبتي..." (ص.67).
تخرج الشخصيّة الأنثويّة من طابعها الجامد المقتصر على العواطف لتكون عنصراً محرّكاً يمنح المصطلحات والسلوكيات عدّة دلالات وتأويلات، ممّا يعطي الشخصيّات أصواتًا من خلال أفكارهم وهواجسهم "فالأموات لا يستسيغون القهوة باردة كانت أم ساخنة" (ص.81).
قدّمت عزّة طويل نصّها على أنّه صفحة لصور أنثوية كثيرة تتعانق عند صورة واحدة، عنوانها "الأمومة والاحتواء"، لتشكّل إلى جانب الطابع المعرفيّ البانورامي، سواء بالحديث عن الحرب أو أصل ارتباط الموت بالسواد والنهاية المفتوحة، منطلقاً لنصّ جديد تعيد المرأة خلاله رسم نفسها عبر بدايات متمرّدة.