إنّ حقيقة قصّة "حدث في أيّام الجُوع" لجميل الدويهي قد تبدو بسيطة وعاديّة، ولَكَمْ يترتّب على الحقائق البسيطة أحياناً من حقائق كبرى!!؟
عكس جميل الدويهي، ببساطة الأدب وعمقه ذلك الخطّ الفاصل بين طراز التفكير السلوكي وترجمته من أجل البقاء، وبين اشتهاء ترجمة التفكير الروحاني الذّي تمناه أشخاص القصّة، ولم يستطيعوا إليه سبيلاً بسبب واقع البؤس. وكما في كلّ الأزمنة، يجب على المعدومين أن يصنعوا حاضرهم، لأنّ لا شأن لهم في المستقبل إذا لم يعبروا اللّحظة، وفي كلّ مرّة يخرجون من مأزق ويدخلون في مصيبة. وليس من الممكن لديهم، لا عملياً ولا نظرياً تغيير الواقع، إلّا باتّباع الطرق الملتوية، والمخاطرة بفقدان الحريّة وخسارة الحياة، كما جرى مع أشخاص هذه القصّة.
لا نعلم إذا كان بوسعنا أن نلخّص خصائص أدب الدويهي من خلال هذه القصّة، لكن الأكيد أنّه اتّبع النزعة الكلاسيكيّة العائدة للمدرسة الواقعيّة، في التزامه الدّقة المتناهية في رسم تفاصيل الجوع وأثره على الإنسان، وفي تطبيق قواعد المنظور والتشريح الأدبي، والاتّجاه بذلك بمادة ومكان وزمان القصّة إلى الحاضر. وهذا مردّه إلى الخضوع الكلّي لما تمليه عليه أحاسيس الأديب المرهفة تجاه الظلم والمظلومين.
إذا كانت قصّة "المعطف" للكاتب الروسي نيكولاي غوغول، قد امتازت بأسلوبها الكوميدي_المأساوي، وكانت أوّل قصّة في الأدب الروسي تصف انتهاك الكرامة الإنسانيّة، والأهم من ذلك قد أسّست للمدرسة الواقعيّة، فإنّ قصّة "حدث في أيّام الجوع"، قد امتازت بأدب مأساوي بعيد كل البعد عن الأسلوب الكوميديّ، لكن بنفحة المدرسة الواقعيّة. فكان وجه الشبه قريباً جداً بين الشبح في نهاية قصّة المعطف، والذّي كان يقوم بانتزاع معاطف المارة الأغنياء، بعد موت بطل القصّة "أكاكفيتش"، وما ورد عن المومياء في "الصفحة 30" من قصّة الدويهي: "... مومياء قديمة في عينيها شرور وقبائل تتحارب، وفي قلبها جشع وضغينة على كلّ ضياء. المومياء تظهر في اللّيل. تقوم من الخرائب والقبور... تدخل من الأبواب والشبابيك لتخطف الأطفال من أسرّتهم، وتغتصب الفتيات العذارى، وقبل أن يطلع الصباح، تعود إلى مهاجعها، في غابات الصمت، وتترك وراءها خيوطاً من الدم والدموع كآثار باقية."
على الرغم من مرارة البؤس، وانتشار الجوع في مضمون القصّة وعلى جغرافيتها، يقع القارئ على ومضات روحانيّة، تؤكّد التزام الكاتب بمبدأ الوضوح في التعبير عن الواقع، في ترفّع عن عرض المشاهد الدامية الواردة في السرد، باستخدام الحرص على نقل الموضوعات التاريخيّة بواقعيتها المؤلمة -حتّى ولو كانت من نسج الخيال- بنفح روحانيّ محبّب كما ورد في "الصفحة 28" على سبيل المثال لا الحصر: "الجسد هو طعام أيضاً للذين لم يأكلوا من خبز الروح."
جعلنا جميل الدويهي، مشبعين بالروحانيّة التي تنبع من آلام الإنسانيّة في الدرجة الأولى، وهذا يؤكّد رحابة أدبه في مناصرته لقضايا الإنسان في وطنه. وقد أضفى الطابع الإنسانيّ على كلّ الشخوص والموضوعات السرديّة، على الرغم من الأعمال المشينة التي قامت بها هذه الشخوص.
إن معظم الاتجاهات الأدبيّة الحديثة تحاول التفلّت من الأبعاد المرتبطة بالأدب الواقعي، على نحو يتفاوت قلة وكثرة بين اتّجاه منها وآخر، لكنّها آخر الأمر لا تصل إلى حد إلغائها نهائياً. ففي هذا الأدب تتلاشى كل القواعد البنائيّة السرديّة لصالح عرض مأساة الإنسان. وقد غلبت النزعة الروحانيّة على هذه القصّة التي تحمل جينات الأدب الواقعي، وحاول جميل الدويهي أن يقدّم تفسيراً موضوعياً لواقع المجتمع وروحانيّة مسار الإنسانيّة من خلال سؤال ورد في الصفحة 52: "ما هو الفرق بين العدم وحديد العبوديّة؟" وكان جوابه الهدف من كتابة قصّة "حدث في أيّام الجُوع".