كعادة فنّ الرسم، تحملنا اللّوحات جماعات وفِرادى نحو أوطان تشعّ منها الألوان، قبل أن نصل إليها بالحلم أو بالواقع.
لوحة "جسر عزيبة" للفنّانة كلير واكد، تحوّلت جناحاً يقلّنا بين هنا وهناك. ولأنّنا ندرك بأنّه يبقى منّا الكثير هنا وهناك بعيداً عن ضفتي الوادي، فقد اصطحبتنا واكد بحواسنا مع فرشاتها إلى جوار الحلم، إلى عالم الجمال، إلى خارج الزمان والمكان، وقد أعطت لماضي السّحر مستقبلاً، ولحاضر الجسر معنًى.
هنا المعنى الحقيقي للجغرافية، وقد انتشرنا في مشارق الأرض ومغاربها. لكن هذا هو المكان الذّي نقطعه برغبة أو اضطرار من أجل الوصول والتواصل. وكيف نهرب من هاجس تداعيّات العيش المشترك غير المحقّق، وقد رسمت واكد بريشتها واقعاً أكثر إنسانيّة، وأكثر تعبيراً عن رغبة التلاقي، بإظهارها لهفة مداميك الجسر وهي تنتظر سماع أهازيج العابرين.
قد لا نرى واقعنا غداً، قبل أن نطوي العمر ويطوينا، لكنّ واكد، أرشفت الجمال وحلم اللّقاء لأجيال لاحقة. أجيالٌ أخذت العِبر من أجيالٍ وأجيالٍ من اللّبنانيّين المكتوين بنار حروب الآخرين على أرضهم، وقد آثروا أن يورثوا أحفادهم إرادة العبور من وطن مستباح إلى وطن مُصان، ومن هواجس طوائف إلى عيشٍ مشتركٍ حقيقيّ.
الواقع أنّ هذه اللّوحة قد مثّلت مرحلة طويلة من عمر الوطن، تقطّعت خلالها أوصال اللّقاء بين أبنائه حيناً، وعظُمت لهفتهم إلى العناق أحياناً. وهل نستطيع بلوغ عالم الأحلام الذّي رسمته واكد، إلّا عندما نتخلّى عن العقل الواعي، ونطلق العنان لقصص بلا عقد تقوم على التلاقي كما يحدث في الأحلام؟ وكأننا نستمع إلى قصائد ليس فيها غير النغم، وتزخر بصوت مكاري غادٍ.
ولأنّ موضوع اللّقاء يحمل في ذاته قيمة اللّوحة، فقد نشأت هذه القيمة من التناول الفنيّ نفسه للموضوع. وأيما موضوع يبدو في ذاته عادياً، لا قيمة له ولا أهميّة، يصبح في الواقع ذا قيمة فنّيّة كبيرة لمنظر يعبّر عن حالة معيّنة إذا ما مسّته روح فنّان. فمن روح الألوان أضافت واكد مغزًى رفيعاً على المكان المعتاد، وأضفت روعة المجهول على ما يمكن أن نراه كلّ يومٍ. وقد جعلتنا فرشاتها، بتركيز من عقلٍ كانز أن نجول بعالم غير مألوف.
يقول الفنّان الإسباني "خوسيه فيكتوريانو غونثاليث بيريث" المعروف باسم "خوان غريس" أو "جوان جري": "إنّ اللّوحة التي لا ترتبط غايتها بموضوع معيّن، لا تبدو لي سوى دراسة حرفيّة لم تصل قط إلى مرحلتها النهائيّة". وكم ينطبق هدف هذا القول على الحالة هنا، فقد انطلقت واكد من منظر يعبّر عن حالة وطن، وذلك أنّ فكرة الموضوع قد تركت أثراً رسمته فرشاتها جمالاً لا يزول، وكانت أداة في يد الطبيعة التي فرضت عليها طابعها ومظهرها.
ومع أنّ واكد قد رسمت جسراً محدّد المعالم، لكنّها ابتعدت عن التجريد في الفن وبالفن، ورسمت الطبيعة المتغيرة الفصول وكانت وفيّة لها، فالإخضرار الموزّع على الجسر وبجواره، وبحسب ما أراده الخالق ورسمته الفرشاة، يعبّر عن الربيع الذّي أعقب الشتاء؛ والمياه المتدفّقة في سحيق الوادي تنذر بقدوم الصيف؛ وقنطرة الجسر تجسّد تراثاً لا يزول؛ والطرف غير المرئي من الجسر يدلّ على شوق إلى إلتقاء قبل حلول خريف الوطن، وكأنّنا نستمع إلى سفيرتنا إلى النجوم على "جسر القمر".