لقد شاء أسعد الخوري لكتاب "فيليب سالم الموقف والرؤية" الذّي أعدّه، الكثير من المزايا. فلم يكن تكراراً لكلامٍ سالفٍ عن سالم، ولا توالي مقالات صرفاً، ولا اتّباعاً لنهج مرسوم سلفاً.
من نافل القول أنّ للكتاب رسالة، ألا وهي إيقاظ العقل النائم عند اللّبنانيّ، وحثّه على الاتّكال على نفسه في القضايا المصيريّة، وهذا لا يعني بطبيعة الحال قطع صلته بالآخرين.
فيليب سالم موضوع مقالات عديدة لكتّاب لبنانيّين مجموعة في هذا الكتاب وفي غيره من الكتب التي سبقته، وقد حاول هؤلاء إبراز دور الطبيب الماهر، والعالِم المتفوّق، والسياسيّ العقلانيّ، والإنسان المتواضع فيه، على أنّه قمّة من قمم العطاء والإنسانيّة. وقد تكلّموا عليه كثيراً، وانطبق كلامهم على اليسير اليسير من صفاته الحميدة.
فيليب سالم، وقد كشفت المقالات في هذا الكتاب وجهه الحقيقيّ، من خلال أقلام مبدعيها. دفعته محبّته الكبيرة للبنان وللرسالة المنوطة به إلى سلوك طريق قويم، من أجل أهداف سامية. فتلك أعظم شهادة لشخص يرى في الكيانيّة اللّبنانيّة أماً تحتضن أبناءها كلّهم، بقطع النظر عن طوائفهم ومذاهبهم.
مع فكر هذا البروفسور الماهر، لا بدّ أن يتغيّر شيء في الحس الوطنيّ، فينحو نحواً أكثر وعيّاً وإنسانيّة، وأعظم التصاقاً بمبادئ لا تموت، كالعلم والوعي والمحبّة والعطاء والإخلاص. هو الذّي يؤمن، بأنّ الآخر المختلف جزء صميميّ من ذاته. وقد عمل على تغيير صورة لبنان السياسيّة، ليبعده عن شريعة الغاب، ويقرّبه ممّا سمّاه أفلاطون "المدينة الفاضلة". ويعمّه التمدّن الصحيح الذّي هو في العمق عيش مشترك حقيقيّ، واندماج قيم ومفاهيم تتلاقح ولا تتصادم، من أجل حياة تليق بكرامة الإنسان. وممّا جاء على لسان أنور حرب ناشر ورئيس تحرير "النهار" الاستراليّة في الصفحة ٢٥٥ من هذا الكتاب: "في المئويّة الأولى، أين فكر سالم من هذا اللّبنان المنكوب، بدءاً من مرفأ بيروته ست الدنيا المشلّعة إلى آخر دسكرة فيه؟! أين وطن الرسالة القدموسيّ الذّي آمن به "البطرّاميّ" الباحث عن القيامة والأقحوان واللّوز والزيتون والكرمة والكرامة والجمالات المنتشرة فوق التلال كثريّات طبيعيّة معلّقة بين السماء والماء، وعلى شفاهها زعل وخوف وقلق؟!"
ما أحوجنا اليوم إلى منهج معرفيّ مغاير للتقليد، وهذا ما فعله سالم، حين اتّبع منهجاً جامعاً لأسس وجوهر التحوّلات العميقة، معتمداً على آليات التقدّم، نحو فهم تكوين الإنسان ووظائف أعضائه ودور خلاياه، من أجل علاج الإنسانيّة جمعاء.
والتحدّث عن هذا المنهج ليس تنظيراً أجوف، يأتي من الكهوف الأكاديميّة والصروح العلميّة الباردة. فمنهج المعرفة الذّي عمل بموجبه سالم، هو فهم جديد لآليات البحوث القديمة والجديدة التي جرت على يده وعلى يد أترابه، ومراكمة هذه البحوث بطريقة علميّة، لينبت منها توّقع حكيم ومتّزن، واستشراف علاجيّ مميّز لتطوّر الأمراض.
فعلْم سالم وأبحاثه المتقدّمة في مجال محاربة الأمراض المستعصية، قد استجابت لعدة فرضيّات تشكّل أسئلة محوريّة في نطاق البحث المتقدّم أهمّها: ما الهدف الذّي نسعى إليه؟ وما هي طريقة الوصول إلى هذا الهدف؟ وما هي التكلفة الحقيقيّة غير المادّية لتحقيق العلاج الناجع، لأنّه لا قيمة للمال مقابل الحياة؟ وقد أجاب على هذه الروائز والفرضيّات المنهجيّة عمليّاً، بوضع الأسس الاستدلاليّة البحثيّة الصحيحة، اعتباراً من أوّل خطوة في مسيرة الألف ميل في هذا المجال، إلى التميّز الإبداعيّ وإحداث الثورة العلاجيّة الحاليّة. والذّي جاء في جريدة النهار اللّبنانيّة بتاريخ ١٢ شباط ٢٠٢٤ والوارد في الصفحة ١٩ من الكتاب ما هو إلّا غيض من فيض من تصريحات سالم بهذا الخصوص: "ويقول سالم في تواضعه أنّ المعرفة هي مسار تراكميّ بل هي عمليّة بناء مستمرّة. مدماك فوق مدماك."
في مداد الفكر السليم، نجاعة القدرة على الشفاء من الأمراض الجسديّة والروحيّة، وبراءة إلى الله في حمى الأخلاق السديدة. ذاك أنّ عصمة التواضع تظهر من النفوس الأبيّة، وهذا التواضع قد ظهر جليّاً حبّاً بمريض لا يعرف شفاء الجسد قبل شفاء الروح. وقد ارتقى سالم إلى أعلى هرم في المعرفة بنعمة من الرب الذّي رأى تواضعه، وتأثّره بأوضاع مرضاه. وقد ردّد الشاعر هنري زغيب، خلال مقابلة له عبر أثير إذاعة صوت لبنان بتاريخ ٤ كانون الثاني ٢٠١٥، ما قاله سالم في إحدى المناسبات: "التكريم الأحبّ إلى قلبي: شفاءُ مريضٍ. وهذا تكريمٌ من الله". (صفحة ٤٠).
لا يُستنفد العلم مهما أوغلنا في تحليله، ولا يمكن القبض على حقيقة التطوّر فيه. وإن كتب هؤلاء الكتّاب المبدعون في فيليب سالم، كلّ بحسب ما رآه، أو قرأ عن إنجازاته، فهو كالعلم أكبر من الكلام، وأوسع من مقالات تمثّل مدّاً من بحر، لا البحر كلّه.