النهار

نينا عامر بين التمرّد اليوميّ والشاعريّة
نبيل مملوك
المصدر: "النهار"
نينا عامر بين التمرّد اليوميّ والشاعريّة
الغلاف.
A+   A-
تقدّمت مجموعة نينا عامر الشعريّة "أسلحة أنثويّة عديمة النفع" الصادرة عن دار مرفأ للنشر (طبعة أولى 2024) نحو المتلقّي بنصوص يمكن أن نوزّعها على عالمين: الأوّل عالم اليوميّات المتمثّل بالتمرّد على الصمت والكبت العاطفيّ، أمّا الثاني فهو عالم القصيدة التي تنجب أسئلة ونظرة إلى المجتمع ومكونّاته لا سيّما الذات، ما يجعل عنوان المجموعة مرآة تعكس رغبة عامر بالبحث بدلًا من الاشتباك.
 
*اليوميّات ووعي المرأة القائم*
 
تنطلق عامر في نصوصها من مبدأ الهويّة لا سيّما الأنثويّة، مستفيدة من تجارب المرأة عامة وانفتاحها على مفاهيم متمثلّة بالحريّة الخطابيّة والكلاميّة لتقوم بدورها بإسقاط تجربتها الشخصيّة التي شكّلت بدورها صورة واضحة عن وعيها القائم المتعطش للإدراك، فالرغبة شكلت الثيمة الجوهريّة في النصوص الأولى وتكشّفت على شكل عاطفة حادّة حملت مناجاة بقدر ما حملت طابعًا جماليًّا: "كلّ هذا يخطر على بالي وأنا أضع أحمر الشفاه أمام مرآة ذهبيّة لا دائريّة ولا بيضاويّة. هكذا كعلاقتنا كثيرة الانحناءات "(ص.8) أتت "كلّ" لتختزل مسارًا كلاميًّا يعتمد على وصف وظيفته التصوير أو خلق الصورة لدى المتلقّي أي أنّ عامر تريد للأنا أن يولد في نصّها الشعريّ ناصعًا آية على ذلك استخدام لون "الذهبيّ" بعد "أحمر الشفاه" لرسم صورة المرأة القويّة المثاليّة التي تريد إطلاق عواطفها أمام الملأ بكامل أناقتها، وهو هاجس يعتبر من خصال المرأة الأكثر حرصاً على أنوثتها، لتكون الرغبة عنصرًا بارزًا في هويّة الشاعرة الأنثويّة، شكّل الخطاب الجنسيّ لدى عامر امتدادًا واضحًا للرغبة وقد تقاطع بشكل ماديّ بارز مع الخطاب الاجتماعي المناهض لفكرة الأمومة وتكريسها في النّص الديني: "أجبته بأنّ المال هو كلّ ما احتاجه لأصنع سعادتي ونقطة آخر السطر." (ص.10) تعكس النبرة الحادّة "نقطة آخر السطر" استباقاً غيرَ واعٍ لدى الشاعر ورفع حاجز دفاعيّ في وجه أيّ خطاب رجوليّ يتّكئ على الأعراف والدين، فالشاعرة أرادت للمرأة أن تكون متجاوزة لاختلافها مع والدتها لتخوض معركتها الكبرى مع الرجل "الأخ" المتسلّح بالدّين لفرض ترتيب اجتماعيّ حياتيّ على أخته، وهو ما يجعلنا حتمًا ندرك لمَا رفض هذا الخطاب يقابل أيضًا بالحبّ إلى جانب الانفعال، ففي نصّ "أسلحة أنثويّة عديمة النفع" توصّف الشاعرة الحبّ بمقاييس الاستسلام والتسليم والخيبة كدليل على ميلها نحو الهرب من السيّئ نحو حضن ظنّته سيكون الملجأ: "بالدمع أقيس حبّي بحنان أفتح ضفائر الشجارات الممتدة على سهول رسائلنا كطائرات ورقيّة" (ص.13) يأتي ضمير "نا" في لفظة "رسائلنا" كدلالة على التشبث بالارتباط بين الشاعرة والحبيب رغم الخيبة أو البعد أو الفشل العاطفيّ، ودائمًا يكون الوصف إلى جانب العناصر الكونيّة الطبيعيّة ممرّاً مجازياً لخروج هذا الوعي بجرعة جماليّة يتفوّق عليها المعنى ودلالة التراكيب.
 
قدّمت نينا عامر يوميّاتها دون تلطيف أو تهذيب أو مراعاة للممكن وعكسه ليولد وعيها القائم مرتكزًا على أساس متمرّد يشقّ طريقه نحو الحصول على الصورة المثاليّة لأنثى ترى الشعر مغامرة ممكنة.
 
*الشعر والهواجس الاجتماعيّة*
 
في قصائدها السريعة تتقدّم نينا عامر نحو الشقّ المجتمعيّ أكثر فأكثر لا سيّما العائلة، فلفظة العائلة التي تواترت ثلاث مرّات على الأقلّ ولفظة الأم والأب والأخ تشكّل رغم استقلاليّة النصوص وخصائصها العاطفيّة وحدة متماسكة تظهر جانبًا من معركة المرأة مع التيه "في حضن أثاث ريفيّ جمعتُ عائلتي. وأنا أجمع قلوب العائلة من الشتات والبرد". (ص.17)
 
"عملتُ على اصلاح الأشياء دائماً/ انكسار أمّي المعتاد/ الشرخ في حائط علاقتنا كعائلة "(ص.28) المقارنة بين نصوص اليوميّات (ص.17) ونصّ القصائد السريعة (ص.28) يساعد المتلقّي على فهم طبيعة تعاطي الشاعرة مع المفاهيم لا سيّما العائلة والأمّ، فمن ناحية قدّمت عامر صورة الأم والأخ كما أسفلنا على أنّهما ممثلا الأنا الأعلى (الرقابة)، ومن ناحية أخرى منحت الأم طابعًا طفوليًّا يحتاج إلى اهتمام واحتواء من شخص مثاليّ يتجسّد بأنوثة ترسمها الشاعرة في ذهن المتلقّي، فهل نحن هنا أمام هروب إلى الأمام من الشتات والتيه؟ أم مكابرة ومحاولة خلق كيان متين لامرأة ترفع الاستقلاليّة والتحرّر شعارًا لها؟ ولمَ كان وجه الشبه بين العائلة والعلاقة هو الشرخ؟ هل لأنّ الانسلاخ الاجتماعيّ هو الأكثر تماسكًا؟ قد نظّن أنّ هذه الأسئلة اجابتها هي سؤال طرحته عمّار في قصيدتها " ذاكرتي أرجوحة مختبئ": "متى تنتهي المزحة وتخرج من مخبئك؟" (ص.29) إلّا أنّ الوحدة التي عكست رؤية "مؤقتة" أو عابرة إلى الشعر تعيد إلى التساؤلات وهجها "أهرب من عينيك إلى قصيدة" (ص.31) الهرب أي التخلّي والرفض والتمسّك بما بقي من قوّة والشعر دافع محرّض على المناجاة.
 
قدّمت الشاعرة المقبلة من عالم التصميم قصائدها على أنّها قالب إيقاعيّ يضج بالـ"مقابلات" (الصور المضادّة لبعضها) وهو ما يشير إلى تأرجحها بين السكون والاستقرار في حضن الجماعة :"العائلة/ الحبيب" ورفضها سعيًا للتفرّد بأنوثة ناضجة ممّا ولّد هواجسَ اجتماعيّةً لامتناهية: "من قال أنّ الحكاية انتهت، عندما قطعت فأس الحطّاب أغصان الشجر؟" (ص.37)
 
على قاعدة الحداثة فنّ التجريب المستمرّ، جاءت مجموعة نينا عامر مكتوبة بلغة التغيير الجذريّ القائم على الاحتفاظ بصورة العالم الخارجيّ الهادئة والمرتدّة على المعنى والمفاهيم الداخليّة للمجتمع والزمن والذاكرة، فهل هي محاولة لخلق وعي ممكن؟ هل هي نقد؟ هل هي تجربة قائمة على مزيد المناجاة؟
 

اقرأ في النهار Premium