النهار

عطر القداسة من "تاريخ الأزمنة"
البطريرك الدويهي.
A+   A-
*- إن الاقتباسات الواردة في النص، نقلتها حرفيّاً باللغة المكتوبة، وفق ما أراد الآباتي بطرس فهد من تدوينها.
 
أنّى تبدأ القراءة في كتاب "تاريخ الأزمنة" للبطريرك إسطفان الدويهي، وأنّى تتوقّف، أو تنتهي، وتعاود القراءة، فإنّك لا تصل إلى إنصاف قلمٍ جلل، أرَّخ حقبة مهمة من تاريخ لبنان والشرق.
 
أوّل ما يعطيه القارئ لكتاب "تاريخ الأزمنة" هذه الموسوعة المهمّة والمرجع التاريخيّ المصداق، هو الشموليّة والحقيقة. ويؤكّد الكتاب، حقّاً، أنّ كاتبه قد تبوأ عرش المعرفة في أمّ العروش، الكرسي البطريركي الماروني.
 
كلّ قارئ أو ناقد، يشهد للتاريخ المدوّن في الكتاب الذّي راعى الدقّة في التدوين، بعد الجهد الكبير في البحث. فالبطريرك الدويهي، هذا الكبير الكبير، قد أخذنا منه، على الأخصّ إخلاصه لصدق الكلمة في عرض الحدث. وقد جاء في الصفحة الأولى من المقدّمة، على لسان الأباتي بطرس فهد الذّي نظر بهذا الكتاب وحقّقه: "ذلك أن المؤلف المثلث الرحمة كان، قبل أن يُنتخب في قنوبين سنة 1670، لاعتلاء الكرسي الانطاكي البطريركي الماروني خلفاً للبطريرك جرجس السبعلي، كان يطوف في الأبرشيات ويختار معاونيه ذوي علم وتقوى ويتفحص الكتب والمخطوطات ويصلح ما اوقعه النساخ واصحاب الاغراض الملتوية من اخطاء متعمدة تشوّه الحقائق... مستنداً إلى مراجع المؤرخين الصحيحة ومصنفات الآباء شرقيين وغربيين."
 
 
الكلمة هذه، تدعونا إلى الانبهار بمضمون الكتاب، ما يمكن أن يُسمّى كتاب نحت التاريخ بإزميل الطوباويّة. وقد أتيح لهذا الطوباويّ المؤرّخ البهيّ البحث، أن ينقلنا بمكانة إلى زمن الصعوبات التّي مرّ بها الشرق، محاولاً أن يجعل المؤمنين يتقبلون حقائق ذاك الزمن بحلوها ومرّها.
 
لم تغرب الشمس في عيون البطريرك الدويهي، لأنّها أشرقت من بصيرته. فكان له بالإضاءة على ماضٍ يتعلّق بالشرق والطائفة المارونيّة حمولة غلال ضياء من حقيقة، وزَّوادة حرص للقادم. فقد أرّخ داخل الكتاب فترة فاقت الألف من السنين، بدءاً من السنة الأولى للهجرة، الموافقة لسنة ٦٢٢ للميلاد، إلى سنة ١٠٩٨ للهجرة الموافقة لسنة ١٦٨٦ للميلاد.
 
لم يهمل الدويهي في تأريخه هذا، أي حدث يتعلق بتاريخ الإسلام، من هجرة، ومعارك، واغتيالات، وحملات عسكريّة، وانقلابات. كما أنّه لم يهمل أيضاً أي أمر يتعلّق بلبنان ومحيطه، والأحداث التي جرت في عهد الأمراء الذّين تولوا حكمه. وقد ذكر أيضاً جميع الزلازل التّي حصلت على كافة جغرافيّة الشرق، والغلاء، والجوع، والأمراض كالطاعون وغيره... بالإضافة إلى الكوارث الطبيعيّة، من فيضانات وهطول البرد الكبير. والظواهر غير المألوفة... ونذكر على سبيل المثال لا الحصر ما ورد في الصفحة ٣٨٢: "وفيها (سنة ثمانية عشر وتسعماية للهجرة، الموافقة لسنة ١٥١٢ م) يذكر الخوري حنا بن الزطيمية ان تباين في جزيرة قبرس عفريت، وهو وحش عظيم، فقلع أشجار كثيرة وضرب في الهواء فرساً في الكفريات، وشال من البحر حجراً ثقيل ينوف عن خمسين قنطار وألقاه في ارض ديكتيرة التي بقرب برج كرينيه."
 
أمّا الفصل الثاني عشر والأخير "في أحوال أخبار الجيل السادس عشر"، فكان حافلاً بأحداث لبنان. وقد دوّن فيه الدويهيّ الاحداث التي جرت في عهد الأمير فخر الدين الثاني الكبير، ولجوءه إلى الآستانة واسبانيا، وعودته، والمعارك التّي قام بها، وجميع القلاع والجسور التحصينات التي بناها... وكأنّك أمام مسرح الرحابنة تستمتع ب"أوبريت فخر الدين".
 
وكان للطائفة المارونيّة حصة الأسد من هذا الكتاب، فقد ذكر الدويهي جميع الأديرة والكنائس والمحابس وتاريخ بنائها ومن أشادها، ذاهباً إلى كلفة الإنشاء لبعض منها وهذا ما ورد في الصفحة ٤١٠ من تدوينات عديدة وردت في صفحات الكتاب مماثلة لهذا الشأن: "سنة أنج مسيحية (اعني ١٥٣٣ م الموافقة لعام ٩٤٠ هج) اهتم الراهب (القس) جرجس من بيت حرواص من قرية عرجز في الزاوية بعمارة دير مار اليشاع وتوسيعه، وكان المقدم عبد المنعم حنا معضداً له، وكان البنّاء المعلم براهيم ابن عم الخوري موسى الحصروني، وانحسب كرة (اجرة) الفعالة ثلاثة آلاف وسبعماية وخمسين درهم غير الكلفة والذّين اشتغلوا لأجل الحسنة، فيكون اقدره آخر." كما ذكر جميع البطاركة الموارنة، والأحداث التي جرت خلال حبريتهم، والانقسامات التي جرت بين المؤمنين، كالبدعة اليعقوبيّة.
 
حاضراً، كلّ ما نؤمن به، ليس سوى اطِّراد جذور متوغلة في التاريخ، او ظلال ما وراء بصيرة، وبحث موثّق. فقد نقل الدويهي عطر القداسة من زمن الموارنة الأوائل، ودوّنه بجهد جهيد، وأمانة منقطعة النظير، لتنتقل معه إلى زمن تطويبه، علّنا نشاهد معه سرمديّ الوجود: "سنة أنيد مسيحية ( أي ١٥١٣ م الموافقة لسنة ٩٢٠ كما هو محرّر بالفرنجي على الهامش) في ثامن آذار ارسل ثاني مرة (البطرك شمعون) القاصد بطرس الى رومية بمكتوب كبير الى حضرة قدس البابا لاوون... يجاوب عن اعتقاده واعتقاد الذّين سلفوا قبل منه على كرسي انطاكية بتوحيد الذات الالهية وتثليث اقانمها المسجود لهم، وعن تجسد الكلمة في آخرة الازمنة من البتول الطاهرة وموته على الصليب من اجل خلاصنا.... وقيامته في اليوم الثالث وجلوسه عن يمين الله الآب، ومجيئه الثاني ليدين الاحياء والأموات." (صفحة ٣٨٤).
 
بردّه التهم والمحاماة عن عقيدة الموارنة، ونقل الحوادث التاريخيّة بدقّة متمسّكاً بأذيال الحقيقة، والجهر بالحق، انتقل الدويهيّ من التربّع على عتبة التاريخ -هو الذّي أُعطي له مجد لبنان- إلى الارتفاع على مذابح الطائفة المارونيّة كطوباويّ وعالِمٍ قدير.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium