منى حمدان
لطالما أطلّ الفراغ على أرواحنا المُتعبة كشبحٍ أبيض. يلفّنا بصمته، ويخيّم على أفكارنا كغيابٍ حزين. كأنه مرآة تعكس ما يسكن في دواخلنا.
مساحة بيضاء، هادئة، عشوائية، وصاخبة، تبدو مرادفة لمشاعر الغربة والوحدة والعدم. هكذا كنت أتخيّل الفراغ حين أغمض عيني، وأقف خارج جسدي، وأراقب نفسي وما يحيط بي.
عالم موازٍ، وسرّ غامض نحاول فكّ رموزه، ومسرح للأفكار، وملاذ للحقيقة التي تنتظر على حافة الوادي، وتحدّق في مدى عمقه. وأنا لا أفكر سوى في عواقب هذا السقوط المتسارع. فالحدود بين انهزام الحياة في أعماقنا وإعادة إحياء الروح ضبابية جداً.
يشغلنا الفراغ ويسيطر على عقولنا أحياناً، وننجح غالباً في محاولاتنا للهروب منه عبر انغماسنا في العمل وفي حياتنا الاجتماعية، وفي أي أنشطة تمنحنا القوة كي لا نفكر في جميع الأسئلة التي يفرضها علينا الفراغ.
نحاول دائماً مقاومة امتزاج مشاعر الرهبة والألم والإعياء الناتجة عنه، وهي تشكّل سحابةً من الأحاسيس الغامضة التي تدور حولنا، وتحاصرنا في جميع المساحات، كأنه لعنة مجنونة تلاحقنا، وتهدد بسلبنا كل ما نملك، وتصيبنا بالعجز والضياع.
لماذا نخاف من الفراغ؟
اختزلت الصورة المتشائمة، لفترةٍ طويلة، رؤيتي للفراغ الذي شكّل مصدراً للخوف والقلق بالنسبة إليّ، فهربت منه دوماً، كما تفعل الأغلبية العظمى من البشر.
نظرت إليه بعينين سوداوين، فوجدت روحي نفسَها وحيدة مع الأفكار الموحشة، وتحول هذا الشعور إلى مساحة تثقل قلبي، فأصبح المكان الذي تضيع فيه آمالي وتتلاشى أحلامي، ويسود فيه صمت مريب وحزين وقاسٍ أحياناً.
ورأيت فيه غياباً للضمانات والأمان الذي يثير الخوف من المجهول، ومما يخبئه لنا المستقبل؛ فآمنت لفترة طويلة بأنه سجن بلا قيود مرئية، نسجن فيه أنفسنا، ونصبح أسرى لأفكارنا المظلمة، ومخاوفنا المعقدة.
لذا، كنت أتجنب دوماً، وبجميع الطرق، التواجد لوحدي ولو لدقيقة واحدة، خوفاً من أن يتملّكني هذا الشعور، ويسجنني في داخل أفكاري السوداء؛ فهذا ما يحدث حين نسلّم أنفسنا وأفكارنا للفراغ.
من الخوف إلى الحرية
وبعد أن قضيت سنوات طويلة جداً في الهروب من خلوتي مع ذاتي، وجدتُ نفسي فجأة محاصرة في منزلي، وحيدةً مع أفكاري ومشاعري، مع بداية انتشار فيروس كورونا.
أضاف الوباء، والحجر الصحي، إلى حياتي لمسةً غير معتادة من العزلة الإجبارية التي أغرقتني في محيطٍ من الفراغ والسأم والملل والأفكار التي تأكل عقلي، كما شهدت هجرة جميع أصدقائي وصديقاتي عاماً تلو الآخر هرباً من هذه المدينة القلِقة.
في البداية، شعرت بالرعب والألم، وسألت نفسي: كيف سأواجه هذا الفراغ؟
وفي غياب الانشغال بالعمل والحياة اليومية والأنشطة، كانت أيام الاستقرار والهدوء تتبدد ببطء، فانطلقت في رحلة بحثٍ عن إجاباتٍ، أجبرتني على الغوص في أعماق نفسي، واستكشاف خباياها.
عندها، قررت أن أقاومه وأحاربه، فكان كلّ يوم تحدّياً جديداً، وكلّ خطوة كانت تلقي بظلالها على عقلي وتفكيري. وبدأ القلق ينمو بسرعة في داخلي، ويغزو كلّ خليّة في جسدي. حينها، لم أعد أقوى على مكافحته والصمود بوجهه، وقرّرت الخضوع له، خصوصاً بعد أن بدأ يؤثر بشدّة على صحتي النفسيّة.
في لحظات الاستسلام هذه، ساعدتني مطاردة فطرتي البريّة، التي تتوق إلى حلّ وفهم كلّ ما هو غامض ومجهول، على تلمّس طريقي نحو متاهة الاكتشاف الذاتي الذي كنت أخشاه، تجنباً للغوص في نفسي، وخوفاً من التخلّي عن أوهامي بالسيطرة على حياتي وعلى ما يحيط بي.
وخلال رحلتي المليئة بالتأملات والاحتمالات والأفكار، قرّرت مواجهته، وتحلّيت بالشجاعة الكافية لاكتشاف عمقه، من دون الغرق في مشاعر الرهبة، ومن منظورٍ مختلفٍ تماماً.
وفي وسط العزلة الإجبارية التي طالت مدّتها، وقفت على عتبته، وتجاوزت صدى سكونه، الذي يبدو وكأنه يبتلع جميع الأصوات، وانتظرت ظهور أشعة النور بعد ليلٍ طويل.
وفي مواجهته، اكتشفت عدميّتنا وحرية اختياراتنا، ومسؤوليّتنا عن حيواتنا، وحقيقة تلاشي أرواحنا، وأين تولد الأحلام وتتبخّر الأوهام.
أدركت أننا أقوياء وضعفاء، ومتغيّرون وثابتون في آنٍ واحد. وعرفت جيّداً ضرورة الاستسلام لحقيقة أن الفهم الأعمق لما يحيط بنا ينبع من دواخلنا.
في علاقتي معه، وجدت نفسي وجهاً لوجهٍ مع ذاتي، وأنا أُحاول فهمها وإدراك مكانتي في هذا الفضاء الموازي، وأُسائل نفسي: هل حياتنا مجرّد سلسلة من الأحداث العشوائية؟ هل نحن مجرد عابري سبيل؟
هل يملك الفراغ معنى؟
على عكس كل ما اعتقدته، وآمنت به، واقتنع به كثيرون وكثيرات، لمست حقيقة أن الفراغ لا يعني الخلوّ والفقدان، وليس غياباً فحسب، بل هو حضور صامت وحيّ، وفرصة للانعزال والتخلّص من ضوضاء العالم الخارجي وتشويشه، والحصول على الهدوء الذي يمنحنا القدرة على الإنصات إلى أصواتنا الداخليّة.
فتعلّمت كيفية تحويله إلى مساحة تتيح لنا حرية التخيّل والابتكار. فحين نتجاوز حدود الواقع الملموس للغوص بعمق في دواخلنا، يفتح الفراغ أمامنا أبواباً كثيرة ومتنوّعة ومتعدّدة من التساؤلات، والاكتشافات، والإبداع، والطموح نحو عيش حياة غنية بالتجارب، والأمل، والتحدّي، والفضول والتفاؤل.
خلال رحلتي الخاصة، أيقنت أن الفراغ ليس عدوي، بل على العكس هو حليف مهم يساندني في طرح الأسئلة اللازمة، وفي محاولة الوصول إلى إجاباتها.
لذلك، لم أعد أنظر إليه على أنه مرادف لليأس، بل فرصة للحرية، وملاذ للروح، حيث أجد سلامي وسكينتي وتوازني، وأستعيد قوتي لمواجهة الصخب اليوميّ بعزمٍ وثبات. وتمكنت كذلك من التعرّف على أبعادي التي أجهلها في الحياة اليومية.
أدركت أنه أصبح صديقي الصامت المخلص الذي رافقني، ولا يزال، في كلّ محطة وكل خطوة. يصغي إليّ بسكونٍ واهتمام، من دون إطلاق أيّ أحكام أو توقّعات، ويُقدم إليّ العونَ والدعم من دون قيدٍ أو شرط.
وقد ساعدني على فهم مشاعري بشكلٍ أفضل، والتواصل مع نفسي جيّداً، وتعزيز وعيي بذاتي، وزاد قدرتي على التأمّل الذاتي.
في هذا الفراغ، وجدت نفسي حرةً من جميع القيود، أستطيع أن أكون من أريد، وأن أحقق جميع رغباتي. هو عالمي الخاص الذي أُحكم فيه وحدي، وأُقرّر مصيري بنفسي.
لم أعد أرى في نفسي مجرّد ضحيّة للظروف، بل اكتشفت أنني أملك القدرة التامّة على اختيار مسار حياتي وتحديد طريقي.
وتعلّمت أن أكتب حكايتي بنفسي في هذه المساحة الآمنة، لأنني أملك مفتاح حريتي في داخلي!