في الأزمات، سواء كانت شخصية أو مجتمعيّة، غالباً ما يُهمّش الفنّ في عمليّة التشافي، غير أنّه يؤدّي دوراً نفسيّاً حاسماً في تناول المأساة والتعامل معها. له قوّة تحويليّة قادرة على مساعدة الأفراد والمجتمعات على التعامل مع الصدمة، والتعبير عن مكنونات النفس والمشاعر الدفينة، ورصّ الصفوف وإيجاد شعور بالأمل. يُقدّم الفن وسيلة فريدة يمكن من خلالها للأشخاص معالجة المشاعر المعقّدة والتعبير عنها، بينما يصعب غالباً التعبير عنها بالكلمات. سواء من خلال الرسم، أو الموسيقى، أو الأدب، أو الأداء، ويوفّر منفذاً للتعبير الإبداعي الذي يساعد الأفراد على فهم تجاربهم وبدء رحلة الشفاء.
في الآتي، قراءة علميّة للإمكانات العلاجيّة للفن من خلال فحص تأثيره في أعقاب أحداث طبعت التاريخ الحديث، من حرب البوسنة والهرسك إلى انفجار مرفأ بيروت.
استجابة الفنّ في أعقاب المأساة
بعد أحداث 11 أيلول 2001، قام عدد من الفنانين في مدينة نيويورك وحول العالم بإنشاء أعمال تعكس الألم والخسارة والصلابة عقب اللحظة التي طبعت مطلع القرن الواحد والعشرين. أصبحت النصب التذكارية، والعروض المسرحيّة، والقطع الأدبيّة، والمشاريع الفنّية العامة وسيلة للتعبير عن الحزن الجماعي من جهة، وتكريم الذين فقدوا حياتهم من جهة ثانية.
العرض الضوئي Tribute in Light في نيويورك (أ ف ب)
على سبيل المثال، نذكر التركيب الفنّي "Tribute in Light" وشعاعَي الضوء اللذين يخترقان فضاء برجَي التجارة التوأم، رمزاً للتضامن والذكرى والصمود.
مجتمعات ما بعد الحرب
في المجتمعات التي مزّقتها الحروب وتركت ندوباً سياسيّة وديموغرافيّة ونفسيّة، غالباً ما يُستخدم الفن أداةً للمصالحة وإعادة البناء. في البوسنة والهرسك، على سبيل المثال، عالج الفنانون صدمة النزاع الدولي المسلّح من خلال المعارض والمشاريع الفنّية العامّة. تخدم هذه الأعمال مواجهة التاريخ المؤلم، وتشجّع الحوار والتفاهم بين المجموعات العرقيّة والثقافيّة المختلفة.
أحد الأعمال الفنّية البارزة التي تُخلّد ذكرى حرب الـ92-95 هو "فتاة البوسنة" للفنانة البوسنيّة شيلا كاميريتش. هو عبارة عن صورة فوتوغرافيّة بالأبيض والأسود للفنانة نفسها، مع اقتباس من "غرافيتي" كتبها جنديّ هولنديّ مجهول من قوات الأمم المتحدة، عُثِر عليها داخل ثكنة للجيش في سريبرينيتسا خلال الحرب، تقول: "لا أسنان...؟ شارب...؟ رائحة كريهة...؟ فتاة بوسنيّة!".
"فتاة البوسنة" للفنّانة شيلا كاميريتش
تُعدّ "فتاة البوسنة" تعبيراً قويّاً عن التجرّد من الإنسانيّة والصور النمطية التي واجهها البوسنيّون خلال الحرب. وباتت رمزاً مؤثّراً لصمود وتحدّي أولئك الذين عاشوا الحصار، وتذكيراً بالتأثير الدائم للحرب ودعوة للتأمّل والذكرى.
الفنّ بصفته استجابة للكوارث الطبيعية
بعد الزلزال والتسونامي اللذين ضربا اليابان في عام 2011، استخدم عدد من الفنانين أعمالهم لنقل رسائل الأمل والتضامن. شجّع مشروع "الفن من أجل زلزال شرق اليابان الكبير" الفنانين على إنشاء أعمال تُعبّر عن التضامن والتعافي وتوفّر منصّة لأفراد المجتمعات المتأثّرة للتعبير عن تجاربهم و"التروما" التي ولّدتها الوهلة والفزع والفقدان.
يعكس فيلم الرسوم المتحركة الياباني "سوزومي" لماكوتو شينكاي التأثير العميق للكوارث الطبيعيّة على الفنّ، مستلهماً من صدمة كارثة توهوكو عام 2011. في فيلم الـ"أنمي" هذا، تعبير عن رغبة دفينة لدى شينكاي في معالجة الصدمة والذاكرة الجماعيّة الجديدة الناتجة عن أحداث مماثلة، واستكشاف الروابط الشخصيّة والمجتمعيّة التي تنشأ خلال الكوارث، مع إبراز القدرة العلاجية الي تملكها رواية القصص المطبوعة في الذاكرة والنفس.
فيلم "سوزومي" لماكوتو شينكاي (Crunchyroll)
الفنّ أداة للتغيير الاجتماعي
إلى جانب الشفاء الفرديّ، يمكن أن يكون الفنّ أيضاً محفّزاً قويّاً للتغيير الاجتماعيّ، عبر إثارة الوعي حول قضايا مهمّة وتحدّي المعايير المجتمعيّة وتحفيز العمل الجماعي. على سبيل المثال، شهدت حركة "حياة السود مهمّة" إنشاء عدد من الملصقات والعروض الفنّية والجداريّات التي لا تعبّر فقط عن الحزن على ضحايا الظلم العنصريّ، بل تدعو أيضاً إلى التغيير الجذريّ في النظام.
صورة "نفرتيتي بقناع غاز" تجسيد للمرأة المصرية الثائرة (شون غالوب)
كذلك، خلال انتفاضات الربيع العربي، اتّخذ الفنّ بُعداً مقاوماً، وأصبح شكلاً من أشكال التعبير في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. بات الفنّ الجداريّ والموسيقى والشعر أدوات حيويّة للناشطين للتعبير عن مطالبهم بالحرّية والعدالة. في شوارع القاهرة، على سبيل المثال، نقلت الرسوم والكتابات الجداريّة رسائل سياسيّة تعبّر عن روح الثورة. قدّمت هذه التعبيرات الفنية شعوراً بالتضامن والأمل في التغيير، موثّقةً تطلّعات وصراعات مناضلين من أجل مستقبل أفضل.
فاجعة الرابع من آب 2020
خلّف انفجار مرفأ بيروت المدمِّر، قبل أربع سنوات، جروحاً عميقة على الصعيدَيْن المادّي والنفسيّ، ودفع الأثر البالغ للمأساة الفنّانين للاستجابة بإبداع وتعاطف. حضر فنّ الشارع في المناطق المتضرّرة، محولاً الدمار إلى لوحة أمل وصمود. جميعنا نذكر عبارة "دولتي فعلت هذا" التي كُتبت على حائط مقابل لأهراء القمح المدمّرة، والـ"غرافيتي" وصور وجوه الضحايا التي ملأت الرصيف المحاذي للمرفأ. غير أنّ هذه التعبيرات الفنية لم تقتصر على تجميل المشهد المتضرّر فحسب، بل خدمت قضيّة مدينة وأهلها، بصفتها وسيلة لأفراد المجتمع لمعالجة صدماتهم والتعبير عن حزنهم.
عزّزت صدمة انفجار المرفأ مفهوم الصحة النفسيّة، وظهرت للغاية جلسات علاج بالفن وورش عمل مجتمعية، مقدّمةً مساحة للأفراد لتوجيه مشاعرهم والتعبير عن الحزن والغضب والوجع والتعاطف مع معالم اختفت خلال لحظات، وإيجاد الراحة من خلال التعبير الإبداعي.
مشهد من شارع الجمّيزة في محيط مرفأ بيروت (طوم يونغ)
قدّمت قراءات الشعر، والعروض الموسيقيّة، والأعمال المسرحية منصّات لمشاركة القصص وتعزيز الشعور بالتضامن ووحدة الصفّ أمام هول الفاجعة وسعياً وراء تحقيق عدالة مفقودة. ساعدت هذه المبادرات الفنّية في إعادة بناء الهوية الجماعية والأمل، ما سمح للبيروتيّين بإعادة الاتصال بتجاربهم المشتركة وتصوّر مستقبل يتجاوز المأساة.
حضرت مأساة بيروت في أعمال فنّية عدّة، وشكّلت الحدث والإطار الزمانيّ والمكانيّ الذي تدور في فلكه الأحداث وتتشكّل المصائر. على سبيل المثال: ديوان "الرابع من آب 2020" للشاعر والصحافي عقل العويط؛ "بيروت 2020: يوميات الانهيار" للروائي شريف مجدلاني؛ تمثال "مارد من رماد" للفنان والمهندس نديم كرم؛ مسرحيّة "رائحة العنبر" للمخرج عصام بو خالد؛ مسرحية "إذا هوى"، للمخرج علي شحرور؛ سلسلة لوحات الكارثة وما بعدها للرسام البريطاني طوم يونغ؛ أغنية "عندما ترجع بيروت" للسيدة ماجدة الرومي من كلمات الشاعر الراحل نزار قبّاني؛ سلسلة الأفلام القصيرة "بيروت 6:07" لمجموعة مخرجين، وغيرها.
"الحضارات تشفي نفسها عبر الفنّ"
ترى الدكتورة في علم النفس والأستاذة الجامعية ماري آنج نهرا أنّ "الإنسان كتلة مشاعر، يعبّر عنها بطرق كثيرة مختلفة"، مشدّدة على أهمّية التعبير بالفنون في الأزمات والكوارث، "لأنّ الفنّ يبرز طريقة معيّنة خاصة بكلّ فرد؛ لذلك، حين نتناول حدثاً معيّناً في حياة إنسان أو أوطان، نتكلّم على طريقة تفريغ هذا الحدث".
في حديث لـ"النهار"، تعود نهرا إلى الحضارات السابقة، "التي عبّرت جميعها بشكل فنّي عن الأحداث التي شهدتها". نسألها عن الفنّ العلاجيّ من الناحية النفسيّة، فتؤكّد قدرته على "تفريغ الاضطرابات النفسيّة جميعها، من خوف وحزن ووجع، وغيرها".
تعتبر نهرا أنّ "انفجار مرفأ بيروت مصيبة تتوارثها الأجيال، لم تنتهِ قبل أربع سنوات، وإنّما باتت موجودة في الحمض النوويّ للأفراد، وقادرة على الانتقال إلى الأحفاد، إذ إنّ الحدث الهائل لم يصدم من عاشه فقط، بل حتّى الذين رأوه من بُعد وتأثّروا بما رأوا. هنا تكمن أهمّية الحديث عن الكارثة وتفسيرها وإيجاد منطق لها وعدالة وتفريغ طبيعيّ يرتقي بالنفس".
في اللجوء إلى الفنّ الراقي مواجهة على الصعيد النفسيّ وسعي نحو إيجاد حلول بما هو متاح بين أيدينا. "المتاح حالياً للشعب اللبناني هو أن يعبّر بالفن"، تقول نهرا، "لماذا يُعتبر الفنّ أساسيّاً؟ لأنّه يُعيد إعطاء الحياة. مهمّ جدّاً أن نستنشق من المشكلة حلّاً، ففينا الداء والدواء، أمامنا مصيبة ونريد الخروج منها بحلّ. لهذا لا يساعدنا الإبداع والابتكار على التعبير عن المشكلة والخروج منها فحسب، بل يُساعدنا على الإعجاب بالقرار الذي اتّخذناه وبالنتيجة اللي أعطيناها".
تقول نهرا إنّ "ذاكرة الإنسان، حتى تتوقّف عند الحدث، تحتاج إلى أدلّة، وهذه الأدلّة هي الأعمال الفنّية التي تبقى"، وتنتقل في حديثها إلى فكرة المقاومة النفسية التي تُعتبر نضالاً طويلاً. "إنّه مفهوم ومصطلح يجب أن نذكّر الأفراد به"، تقول، "النضال النفسي هو الذي يساعد الإنسان على الاستمرار في مسيرة حياته؛ والبطولة هي إعادة إعطاء حياة كلّ مرّة من قلب الشهادة والحزن... وهذا ما يقوم به الفنّ. الحضارات تشفي نفسها عبر الفن، وليس من بلدان حول العالم تعرّضت لمأساة إلّا عبّرت من خلال الفنّ".
نسألها عن انتقاد اللجوء نحو الفنّ، باعتباره "تسخيفاً للكارثة وقلّة احترام ومراعاة لمشاعر المتضرّرين"، فتصف نهرا الفنّ بـ"شهادة حياة". ترى أنّ "الموت والحياة جزءان من قصة الإنسان، وعليه، نفسيّاً أو فلسفيّاً، أن يتصالح معهما. وتالياً، يضطلع الفنّ بدور صلة الوصل التي تسمح للإنسان بأن يعبّر عن غريزة البقاء المتمثّلة بالحياة، وغريزة الموت التي صنعت منه ضحية. هذه الثنائيّة أساسيّة للإنسان، وهنا أهمّية أن يعبّر الفنّ عنها".
تستخلص نهرا أنّه "عندما يبقى الإنسان عالقاً في غريزة الموت وغريزة التهديم والتحطيم، فإنّه ينحرف عن مسار المصالحة مع الآخر". اكتشاف الآخر يمرّ باكتشاف الذات والمأساة الشخصيّة والحزن والمشاعر السلبيّة كافّة. "من هنا أهمّية أن يواكب الفنّ أحداث حياة الإنسان، وإن كانت سلبيّة".