رولا عبدالله
ينام التاريخ في خزائن العتمة إن لم يهندم باستمرار على أيدي مؤرّخين يعرفون كيفية الإضاءة عليه بلغة حيّة لا تدخله في سبات. تلك كانت ورشة العمل التي أخذتها دار جامعة أكسفورد للطباعة والنشر على عاتقها. انتقت نخبة من الأكاديميين بإشراف المؤرخ البريطاني فيليب فرناندز أرمستو، الذي طلب منه كتابة "تاريخ أكسفورد المصوّر للعالم". بدأت المهمة في محاولة لتشبيك التنوّع البشري بأكمله، من خلال رؤية الموضوعات التي تربط بين محاوره، والقصص التي تطغى عليه، والمسارات من خلاله.
تتبّع المساهمون في الكتاب التوثيقي، الذي صدرت ترجمته حديثاً عن دار "جروس برس ناشرون" في 500 صفحة من القطع الكبير، مسارات خمس طرق من خلال البيانات: الاختلاف، التقارب، التفاعلات البيئية، حدود الثقافة وتحولات المبادرة.
يحكي المؤرّخ أرمستو الحائز على جوائز رفيعة في ميدانه أنّ إعادة كتابة التاريخ بلغة "وميضية" أخذته إلى مشهد في الرواية البوليسيّة "جريمة قتل الأسقف" الصادرة عام 1928 للمؤلف فيلو فانس. وفي المشهد بطل افتراضي يستطيع اجتياز العوالم في وقت واحد بسرعة لا حصر لها، بما يخوله رؤية التاريخ البشري في لمحة؛ كأن يعود أربع سنوات إلى الوراء لمعاينة الأرض من جهة النظام الشمسي "ألفا سنتشوري"، ويلقي من درب التبّانة نظرة على تحولاتها قبل 4 آلاف عام، وبالإمكان اختيار موقع في الفضاء لمشاهدة العصر الجليدي والزمن الحالي في آن معا!".
وجهة نظر أرمستو أنّ المكلف بكتابة التاريخ البشري يفترض أن يكون محايداً، كأن ينظر إلى الأمور من موقع أعلى من التفاصيل الصغيرة التي غرق بها كوكب الأرض. وهكذا قبل التحدّي، وبدأ مهمّة الإعداد للكتاب بالتعاون مع المؤرخين: باولو لوكا برنارديني وجيرمي بلاك وجون بروك ودايفيد كريستيان وكلايف غامبل ومارتن جونز ومانويل جيرالدو وإيان موريس ودايفيد نورثروب وأنغانا سينغ، لسرد قصة عالمنا الممتدة على مدى مئتي ألف عام، من ظهور الإنسان العاقل إلى القرن الحادي والعشرين: الاضطرابات البيئية، التفاعل بين الأفكار (الخير والشر)، المراحل الثقافية والتبادلات، الصدامات والتعاون في السياسة، تعاقب الدول والإمبراطوريات، إطلاق العنان للطاقة، تطور الاقتصادات والاتصالات والصراعات والعدوى وما عداها من محاور أسهمت جميعها في تشكيل العالم الذي نعيش فيه. يعلّق: "لنفهم مجتمعات بأكملها، نحتاج إلى معرفة كيفيّة العيش فيها على مختلف مستويات الثروة والسلطة. ولنبدأ من أنّ التاريخ هو دراسة التغيير". ماذا عن الحضارة إذن؟ يأتي الجواب بأنّها عمليّة تعديل بيئي لتناسب الحاجات البشرّية. ويأتي التدخل البشري في البيئة أشبه بسلسلة من عمليات الإفلات من الكوارث، كل منها تخبئ مغامرة. فالزراعة ساعدت على النجاة من تغير المناخ لكنّها أوجدت مستودعات جديدة للأمراض بين الحيوانات الأليفة، وحكمت على المجتمعات بالاعتماد على المواد الغذائية المحدودة، وبررت الأنظمة الاستبداديّة التي نظّمت وضبطت الحرب والعمالة والري والتخزين.
يتنقّل الكتاب المصوّر عبر التاريخ بدءاً من محاولات الإنسان التكيّف مع الطبيعة، إلى دخول الثقافات المتباينة وتقلبات الإمبراطوريات من عصر الظلام إلى الانقلاب المناخي ودخول أمراض مثل الطاعون على الخط، وصولاً إلى عالم يزداد احتراراً وحقبة الأنثروبوسين والإيديولوجيا والصراعات من بدايات الهيمنة الغربية إلى السيادة الأميركية.
وعلى طول هذا التاريخ المتقلّب بين حروب وسلام، يسلّط الكتاب الضوء على مدى توافق التقارب والاختلاف: "هما متكاملان لأنّ التبادل الثقافي يقدّم الحداثة، ويحفر الابتكارات ويعجّل بكل أنواع التغيير بالنسبة إلى معظم الماضي البشري".
ويطرق أبواب التأثيرات البشريّة من باب فهم الحضارة على أنّها عمليّة تعديل بيئي لتناسب الحاجات البشريّة، موضحاً بأنّه في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين انتهت معظم الديكتاتوريّات وانهارت الفاشيّة والشيوعيّة وثبت أن الديموقراطيّة غير آمنة، إذ انزلقت دول عديدة في أياد سلطويّة. وحلّت التعصّبات محل الإيديولوجيّات، وعادت القوميّة إلى الظهور، وأثبتت الرأسماليّة أنّها مضلّلة، وزادت الفجوات بدلاً من الثروات. ووفق هذا التاريخ المحقون بالمحطّات المتنازع عليها، يشبه الماضي لوحة لسيزان، أو مثل منحوتة مدوّرة، حيث لا يمكن في الواقع الكشف عن جانب أحاديّ. الحقيقة الموضوعية، التي تبدو مشابهة بالاتفاق بين جميع المراقبين الأمناء، تكمن في مكان ما هناك، في موقع بعيد يصعب العثور عليه، ربما باستثناء إدراج جميع وجهات النظر الذاتية الممكنة.
يخلص أرمستو إلى أنّه عندما نغير وجهة نظرنا، نحصل على رؤية جديدة، ونحاول ملاءمتها لدى العودة إلى موقعنا. بعبارة أخرى، يمدّنا الرسّام كليو بالإلهام لنتجسّس على من يستحم بين الأوراق. في كل مرة نتفادى وننزلق لنجد أنّنا نخرج بوجهات نظر مختلفة، حيث يتم الكشف عن المزيد، تماماً مثلما يفعل المؤرّخ في إنعاشه التاريخ بالشهود لإنتاج بصيص الأحداث.