بروح مرهفة بالجمال، ومن خارج الأبعاد الثلاثة، جلست ماري خوري في حضن الخيال، تحت شجرة "الأكاسيا" التّي تُزهر صيفاً، تُصلح طائرتها الورقيّة، لتشارك أترابها فرحة عرس مسيّرات الجمال.
إذا كانت الطائرة الورقيّة لعبة قد طواها الزمان، فقد أعادتها خوري زينة في فضاء الحاضر، وفسحة جمال فوق بشاعة ولوعة المآسي. وإذا كان لكلّ قصيدة مناسبة، فللوحات ماري خوري مناسبات وأبطال. فبطلة هذه اللوحة صبيّة تقاطعت فرشاتها مع أفكار فنّانة نمت بنعمة الرجاء، وكبرت الموهبة في روحها، واللوعة في وجدانها، وقد داوت هذا الوجدان بألوان العطاء، وكانت هذه الفرشاة طوع موهبتها. وقد رحلا سوياً عبر الزمن إلى مرحلة ولدنة، طاردتها الحرب فغابت عن عالم السّحر والجمال.
كان حلم خوري أن تصبح مهندسة قبل إصابتها، لتصنع الجمال. لكن حرمانها من الدراسة ووضعها الذي جعلها أسيرة الكرسي النقّال بالجسد فقط، قدّسا بداخلها الجمال المهيب. فترجمته ببساطة لَعِب أولاد ما عرفوا من الحياة إلّا الحرب بعد اللّعب. وقد بقي نتف من هذا الجمال في روحها، وتكاثرت الروعة، وأزهرت وأثمرت كأشجار الزيتون في قريتها التّي تلوّح للغيوم في خلفيّة اللوحة، فصداقتها مع الغيم قديمة قدم الحفافي التّي زُرعت فيها.
لقد بقيت البهجة التّي خلّدتها ماري خوري في لوحتها هذه، أمام أعين كبار قريتها الشوفيّة "البيرة" الذّين لعبوا أولاداً في أزقّتها، وعلى طرقاتها المغبرّة. غير أنّهم ما تنبّهوا إلى جمال تلك القرية، إلّا بعد الغياب، حين صفعتهم النوستالجيا التّي حاولت أن تفارقهم من دون جدوى، عندما نظروا في اللّوحة إلى الزمن الذّي فارقهم، خلافاً للحنين الذّي لم يفارق خيال هذه الفنّانة المبدعة.
كانت لحظة نورانيّة، تلك التّي حدثت فيها مشهديّة صنع الطائرات الورقيّة بعيني ماري خوري. فحوّلتها إلى ماضٍ جميل، لم يزيّنه مصباح على عامود كهرباء، بل كانت زينته بهجة وصيحات أولاد.
ولأننا لسنا ممّن مرّوا في هذا المكان، فكيف لنا أن نتخيّل واقعيّته في زمن اللّوحة؟ لكنّنا عشنا تلك المرحلة لعباً، وشجاراً، وفرحاً، وطيشاً. فهذا المكان الذّي سكن ذاك الزمان، محظوظ بمرور شعيرات فرشاة، عرفت من أخضعها أن تفسّر الفرح لوناً ومنازلَ تعتمر القرميد فخراً، وتعكس النور كأنّها تعيده إلى الشمس في تبادل لازورديّ مهيب.
تعاملت خوري، مع حركة انتقال الماضي إلى الحاضر، بطريقة أخآذة. ونقلت بساطة حياة، من هناء عيش، في ذلك الوقت إشارةً واعية لحاضرنا المأزوم. فالعشب اليابس على حافة الطرقات، حمل رمزيّة الهجران. لأنّ الريح ستذرّيه في أرجاء بعيدة، كما فرّقت الحرب سكّان دساكر هانئة. فحذار أنّ تشتعل النار في هذا العشب مجدّداً، لأنّ اللّوحة والماضي والحاضر ستشتعل معه.
ليس كلّ عين، تملك قدرة العودة بالزمن، إلى هذا الجمال السّاطي، خلال المآسي التّي مرّت بالوطن، ما لم يكن الرونق ساكناً فيها. فقد أعادتنا ماري خوري إلى حياة وولدنة عشقنا فيهما أغنية سفيرتنا إلى النجوم: "طيري يا طيّارة طيري يا ورق وخيطان..."