النهار

"غرفة 13" لأنس سمحان: حين يُمنح النّص هويتين
نبيل مملوك
المصدر: "النهار"
"غرفة 13" لأنس سمحان: حين يُمنح النّص هويتين
المجموعة القصصيّة الأولى "غرفة 13".
A+   A-
في مجموعته القصصيّة الأولى "غرفة 13" الصادرة عن دار مرفأ-طبعة أولى 2024، طرح أنس سمحان وجهين مختلفين للنّص تمحورا حول تقنيّة كتابة القصّة من جهة ودور الأنا وارتباطها بالسرد واللغة من جهة ثانية، ما سمح للنصوص بأن تكون مرايا تعكس رؤية الكاتب للعالم والواقع النفسي الاجتماعي وخلق اشكاليّة واحدة تجمع القصص ضمن نطاق وحدة عضويّة تنتمي إلى بعضها البعض وتكمّل سواها.
 
تقنيّة الكتابة القصصيّة
المجموعة التي تتألف من 14 قصّة دارت موضوعاتيًّا في فلك اهتمامات الكاتب وهواجسه المباشرة وسمحت له بأن يعكس مناجاته وخلفيّته النفسيّة المتّسمة بالأرق والاكتئاب وهذا ما شهدناه في قصّة "كابوس غزّة" التي تداخل فيها منطق السيرة الذاتيّة مع منهجيّة القصّ "مؤخّرًا، صار من الصعب عليّ إكمال يومي دون تناول مضادّات الاكتئاب" (ص.71)، توظيف ضمير المتكلّم "أنا" في عدد لا بأس به من القصص وضع المتلقّي أمام أمرين: الأوّل متمثل بالتحرّر من منطق القصّ الكلاسيكي القائم على الحبكة (قصص الهاوية، صندوق الرمل، حوار، ألبوم نماذج). أمّا الأمر الثاني فتجسّد من خلال فتح المسار أمام الكتابة القصصيّة بإيجاز والانطلاق نحو فضاءات التعبير الانفعالي المباشر واللحظوي اليوميّ المفصّل "أنا لستُ سيّئًا. أنا فقط أخاف على نفسي من التعلّق بأيّ شيءٍ فانٍ. أحاول أن أبعد الجميع عنّي بتصرّفات مثل هذه". (ص.51 ).
 
في المقابل، استهلّ سمحان مجموعته القصصيّة بقصص مكتوبة بأدوات كلاسيكيّة مثل "كلارينيت" التي اتسمت بتحويل ما يمتلكه من ثقافة واطلاع وتحويله عبر السرد إلى قصّة ذات أبعاد إنسانيّة ومغزى، وقد تكرّرت لازمة المغزى في الطابع الخرافي في قصّة "حكمة الضباع"، كأنّ الكاتب يريد أن يساوي بين النمطين الكتابيين أو ربّما استقطاب عدد أكبر من المتلقّين.
 
الأنا ووحدة القصص العضويّة
جهد سمحان في نقل ما يدور في ذاكرته من تأثّرات وانطباعات وتساؤلات وصاغها في لغة يخلو سردها من الشاعريّة ويتّسم بالمباشرة والتماسك وقلّة الحوارات، وعروجه الموضوعاتي على الواقع القاتم في غزّة بشكل مباشر أعطى المجموعة طابعاً إشكاليّاً يترجم عبر السؤال التالي: كيف أثّر المكان على لغة سمحان وما هي انعكاسات الغربة النفسية والاجتماعيّة عليه؟ والأنا وفقًا لما آل إليه تعريف فرويد هو المزيج القائم بين الرغبات والمكبوتات والانفعالات التي تحملها الهو والقوانين والشروط والمعايير التي تفرضها أجهزة الرقابة أو السلطة المسمّاة الأنا الأعلى.
 
في قصص مثل "حوار/ الهاوية/ صندوق الرمل"، لجأ سمحان إلى اللغة الواضحة كي يكشف الموضوعة ويجعلها سهلة التلقّي من قبل القرّاء بكافّة أنواعهم ومستوياتهم المعرفيّة والقرائيّة. وساهمت هذه القصص في تكوين الرؤية إلى العالم الخاصّة بوعي الكاتب من خلال ثلاثيّة "الله/ الإنسان/ العالم" التي طبّقها لوسيان غولدمان على نصوص عدّة في كتابه "الإله الخفي".
ففي قصّة الهاوية محاولة للبحث عن الخالق ومحاورته "كنت قريبًا جدًا من الله (أو هكذا كنت أظنّ) "ص.8"، والرؤية إلى الذات أو الآخر الكامن فيها "لا. ليس هذا ما أريد. أريد أن أعرف كيف تتماشى هكذا مع كلّ أفكارك السوداويّة في رأسك" (ص.77). والرؤية إلى العالم أو المجتمع الذي بدا غريباً على الكاتب أو الشخصيّة البطلة في قصّته "لم أخرج منذ مدّة طويلة. كنت أمشي شبه متكئ عليها، وكانت عيون العامّة كلّها تنظر إلينا..." (ص.57 ).
 
استطاع سمحان من خلال التوظيفات المتعدّدة والمتغيرة للأنا في قصصه أن يخلق بيئة كتابيّة خاصّة به تبدأ من ترسبات الغربة والاغتراب التي تركتها غزّة في داخله وصولًا إلى طريقة تعامله مع المحيط والناس، والحقّ أنّ هذا التداخل بين قصّ السيرة وكتابتها منح المجموعة طابعًا تجديديًّا وأوقع الكاتب في خطر تناسي النفس الحكائي ومبناه.
 
رغم هذا التنوع في أشكال القصّة وهويتي النصوص إلّا أنّ أنس سمحان حافظ على الشعريّة في نصّه من خلال حقول معجميّة تدلّ على بعضها البعض في كلّ قصّة واشهار الخلفيّة الثقافيّة والاجتماعيّة والنفسيّة الخاصّة به ككاتب فضّل اختزال الشخصيّات بصوته النصّي وأن يجعل النّص يتأرجح بين هويّته الحديثة والتقليديّة.
إعلان

اقرأ في النهار Premium