النهار

على سيرة البطّيخ
تعبيرية.
A+   A-
فلاح داود أبوجوده
 
"تْصَوَّروا الدِّني بلا بطّيخ"!
عِبارة لطالما ردّدناها ونحن نأكل قطع البطّيخ الباردة، في عزّ الصيف، في الغرفة الزجاجيّة الملاصقة للمطبخ، في بيت أبي وأمّي.
وكان اختيار رأس بطّيخ جيّد يُعتبر موهبة من المواهب التي لا يُتقنها إلّا قلائل.
 
وكان "الدكّنجي" جارُنا يُطَبطِب على رأس البطّيخ وهو يضع أذنه عليه، ليستمع إلى الصدى الصادر عن ضرباته، وكنّا جميعنا نعلم أنّه لا يعرف شيئًا، ونجاحه في ما يفعله ليس أكثر من ضرب من ضروب الحظّ.
 
وكنت أنا متيقّنًا، وعلى طريقة "جول ڤرن" في استشراف اختراعات المستقبل، بأنّ العلماء، عاجلًا أم آجِلًا، سيخترعون آلة "إيكوغرافي" تُرينا ما في داخل رأس البطّيخ، تمامًا كما يفعل الدكتور "نبيل حلو" حين يستكشِف الجنين في بَطْن أمِّهِ.
إلّا أنَّ ذلك لم يحصل إلى الآن، وما زلنا نتّكل "عالسكّين يا بطّيخ" لنختار رأسًا مناسبًا.
 
وقديمًا قيل في الزواج، إنّه "بطّيخة مسكّرة"، أي أنّنا لا نعرف ما في داخله حتّى ندخل إليه.
 
وإذا كان الليمون هو جوهرة فَصْل الشتاء، فإنَّ البطّيخ هو جوهرة فَصْل الصيف، ولا يطيب الـ"بيك نيك" جنب النبع إلّا إذا وضعنا رأس البطّيخ في مجرى الساقية الباردة الآتية من رأس الجبل العالي، لكي نُثلِّجَهُ فينفقش إثْر تمدّد الماء في داخله.
 
وفي التعابير المحكيّة، يُستعمل البطّيخ كتأكيد لرفض أمرٍ ما وتسخيفه، فيقال: "بلا مِشْوارك بلا بطّيخ"، أو "بلا أفكارك بلا بطّيخ".
أمّا متعدِّد المواهب فننصحُهُ أن "لا يحمل بطّيختين بفرد إيد".
 
ونظرًا لقيمته، يُعتبر البطّيخ من الرؤوس في الفواكه والخضار، تمامًا كالبطاطا والبندورة، فيُقال رأس بطّيخ ورأس بطاطا ورأس بندورة، بينما البقيّة تسمّى "حبّة" أو "قَرن" أو "كوز" أو "قِرْط"، فنقول: حبّةَ ليمون أو قَرْنَ فول أو كُوزَ رُمّان أو قِرطَ موز...
ونظرًا لقيمة البطّيخ أيضًا، أَطلقَ أحد أقاربنا في "جل الديب" على نفسِهِ لقب "ملك البطّيخ".
 
وفي فكرة شيطانيّة، دحرج ابن عمّتي "يزيد عون" وشقيقي "هاني" رؤوس البطّيخ التي جلبها أبي، على طول المنحدر المؤدّي إلى مدخل البيت، على أمل تسهيل عمليّة نقلها، وراحا يركضان وراءها لتخفيف سرعتها، إلّا أنّها وصلت قبلهما، مهشّمة محطّمة.
 
وهناك البطّيخ الأحمر، والبطّيخ الأخضر، والبطّيخ الأصفر المسمّى أيضًا "شمّام" نظرًا لرائحته المميّزة، والتي يكرهها شقيقي هاني.
وبحسب هاني ما زالت "عروس" الجبنة البيضاء مع البطّيخ سيّدة "العرايس"، و"بَلا الشمّام وْرِيحتو".
 
ويوم سافرتُ إلى فرنسا للاختصاص، فوجئت بأنّ الأوروبيّين يشترون البطّيخ بـ"الشحبورة"، أي القطعة، فعجلْتُ وأخبرت أمّي التي قالت لي باستغراب: "وَلَوْ! وصلْنا لَهَون؟ّ"
وماتت أمّي قبل أن ترى اللبناني يشتهي "شحبورة" البطّيخ، في بلد مُفْلِس صارت ليرته تعادل قشرة البطّيخ.
 
والمعروف عن قشر البطّيخ أنّه مِن طعام الحمير والدجاج.
وقديمًا قيل عن البطّيخ إنّ له ثلاث فوائد: "بيسلّي وبيحلّي وبيعشّي الحمار".
ويقال أيضًا لِمن يُكثر من أكل البطّيخ: "ما رح تخلّي شي للدجاجات!"
 
وقد روت لشقيقتي "إليسار" ممرّضةٌ حلبيّة كانت تعمل مساعِدةً لزوجها الدكتور "أنطوان أبي حيدر"، قصّةً عن قشر البطّيخ، قالت:
"خَطَبت ابنة أخي شابًّا من الشام، كان يتباهى مع أهله بالمطبخ الشاميّ.
وعندما دُعِيت العائلة إلى حلب للتعارف، عُرِضت المأكولات الحلبيّة الفاخرة، الواحد بعد الآخر، حتّى جاء دور المربّيات، فتباهت الجدّة وهي ترى اندهاش السيّدات الشاميّات بالرغم من إتقانِهنَّ الرفيع للطبخ، بما لديها من مربّيات، فهذا مربّى الورد، وهذا مربّى البلح، وهذا مربّى الباذنجان، وهذا مربّى البطّيخ، وهذا مربّى قشر البطّيخ!
فما كان من جدّة الخطيب إلّا أن رفعت الصوت: "عرفناكن شاطرين، بس وَلوْ! تركوا شي للحمار"!".
 
 
ويروي "سلام الراسي" أنَّ الدكتور "يوحنا ورتبات" أحد مؤسّسي كليّة الطبّ في الجامعة الأميركيّة، جاء مرّة يزور أحد مرضاه في "عين المريسة"، فوجد أنّ المريض يتعافى، ولا داعي لوصف دواء له.
فسأل أهلَه ماذا فعلوا من أجله؟! فقالوا: "نحن فقراء، أطعمنا مريضنا البطّيخ، ووضعنا على جبينه الحارّ قِطَع بطّيخ باردة، فرَشَح جسمه بالعرق، وتندّى جبينه بالبرودة، وهبطت حرارته".
فقال لهم الدكتور"ورتبات": "فَعَلتُم عين الحِكمة".
 
ويُضيف "الراسي": إنَّ القرويّين إذا وقع أحدهم في مشكلة مستعصية، وحاول أن يُنقذ نفسَه بنفسِه بوسائل غير مُجْدية، قالوا إنَّه "يسلّي الحِمّة بقشور البطّيخ".
 
وفي البطّيخ بَذر، ويقال إنّ البابا بولس الثاني الذي كان معروفًا بنهمه للطعام، توفّيَ بسبب بذرة بطّيخ دخلت في رئته!
وحين سألتني ابنتي "لينا" كيف يُستَخرج البذر من البطّيخ، قلت لها مازحًا: "إنّهم يأتون بالعمّال فيأكلون البطّيخ ويبصقون البذر في أكياس، ويبيعونه للناس!"
فدوّرت عينَيْها !!
وتمكّنَ العلماءُ مؤخّرًا من إنتاج بطّيخٍ من دون بذر.
على أمل أن يتمكّنوا من إنتاج بذر من دون بطّيخ!...
 
ويتولّى تجّارُ الفواكه تستيفَ البطّيخ بطريقة منظّمة وهادئة كي لا تُحطِّم الرؤوسُ بعضَها.
وحين قلنا لأبي إنّ شريكَيْه السابقَيْن اختلفا مع بعضهما، نظر إلينا نظرة خالية من الاكتراث، وقال: "بطّيخ يكسّر بَعْضو".
 

اقرأ في النهار Premium