لا أحد يعلم، كيف يغافله الكَرى، وتغادره اليقظة المتشبّثة بأمكنة الوقت؛ فممتع أن نشهد على جمالٍ ذوى في تيه النعاس، ضمن صفحات كتاب "على سيرة النّوم"، لفلاح أبو جودة، الصادر عن منشورات دار النهار.
عندما تبدأ بقراءة الكتاب، تضع فنجان القهوة التي تتسبّب بالأرق جانب اللّامبالاة، وتحلم في دغدغات النوم، على إيقاع أغاني، وأشعار مِداد الزمن الماضي، وعصر السرعة الحاضر. فلكلّ نوع من أنواع النوم طقس مختلف: فهناك تنويمة الجائع، ونوم الأولاد، والعاشق، والحاكم، والسجين، والثائر، والشهيد، والقائد، والبطل، والحارس، والشاعر، والبردان... وقد استوحى أبو جودة طقوس نوم هؤلاء من ألسنة المبدعين، من كتّاب وشعراء، ومسرحيّين وغيرهم، وطعّمها بأسلوبه الكتابيّ المميّز، الشبيه بأخبار الجدّات، اللاتي كن يتلونها على أحفادهن كي يناموا.
على سبيل المثال، ما ورد عن نوم المحكوم بالإعدام في الصفحة 31: "فالمحكوم بالإعدام لا ينام ليلة إعدامه، إلّا إذا كان أنطون سعادة".
كما ورد في الصفحة 32 من الكتاب على لسان ميشال أبو جودة، مقتطفاً من مقال نُشر في باب "حقيبة النهار"، عام 1973: "أمس، نام غسّان تويني في السجن أكثر ممّا نام العهد والحكم. فغسّان تويني مطمئن إلى ما فعل، والعهد قلق ممّا فعل". وضمن إطار طقوس النوم في أدب السجون، دوّن أبو جودة في الصفحات 76/ 77/ 78، مقتطفاً من كتاب "القوقعة" لمصطفى خليفة، الذي أمضى ثلاث عشرة سنةً في سجون النظام السّوري، وفي سجن تدمر سيّئ السمعة، واصفاً "التسييف" وهو النوم على الجنب لإفساح المجال لأغلبيّة السجناء كي يناموا ممدّدين على الأرض؛ وليس وقوفاً، بسبب ضيق مساحة الزنزانة. "يلّا سيّف... يلّا سيّف، كلّ النايمين يسيّفوا. وتبيّن أنّ التسييف هو النوم على الجنب".
فما هي يا فلاح طقوس النوم عند السجناء السياسيّين الأسطوريّين، كسمير جعجع ونلسن مانديلّا وغيرهم، الذين ارتضوا السجن الانفراديّ أنيساً لهم ذابِّين عن حياض الوطنيّة؟
إذا كان "النوم بجرّ النوم"، فهل الأحلام تجرّ الأحلام؟ عندما قرأت الفقرة الواردة في الصفحة 56: "ويستغرب أنّه أثناء القيلولة يتابع حلم اللّيلة السابقة"، حضرتني نادرة تتكلم عن الهررة، على لسان أحد المرضى النفسانيّين أمام طبيبه، وقد اشتكى له بأنّه يشاهد كل يوم في منامه الهررة تلعب كرة القدم. فنهاه الطبيب عن النوم لمدة ثلاثة أيّام متتالية، فأبى إلّا أن ينام، لأن مباراة نصف النهائيّ في تلك اللّيلة.
ورد في الصفحة 67 من الكتاب، على لسان يوسف سلامة: "إن كنت في مجلس، والحديث سياسة، فضجرت وغفوت، ثم سُئلت فجأة عن رأيك، فأجب أنا من رأي أنطون سعادة، تكن على صواب!". تعيدنا هذه الفقرة إلى زمن كان فيه عديد المجلس النيابي 66 عضواً، وأثناء المناقشات نام أحد النواب نوماً عميقاً، وعند إيقاظه من قبل أحد الحرّاس بعد انصراف أترابه، صرخ بأعلى صوته: "موافق، موافق".
أمّا طقوس النوم اليقظ، فقد احتلّت حيّزاً وافراً من صفحات الكتاب. فقد وصف أباه، وهو ينام على كرسيّ معدنيٍّ، أمام المندف الكبير في معمل القطن، فيغفو ويستفيق بعد خمس دقائق عند خروج لفّة القطن، ثمّ يركن مجدداً إلى النوم، وهكذا دواليك. فهل يا فلاح طقس هذا النوع من النوم يدعى النوم بالتقسيط المريح أو غير المريح؟ وما هي طقوس نوم الدائن والمديون؟ وهل يترتب ربا على اليقظان؟.
وفي الصفحة 105، قول للشاعر حميد بن ثور:
"ينام بإحدى مقلتيه
ويتّقي بأخرى المنايا
فهو يقظان هاجع".
فهل هذا القول شبيه بمرثيّة والد الرئيس حافظ الأسد الذّي كان أعور، على لسان أحد شعراء الزجل اللّبنانيّ؟:
"يا شقيقة لا تخافي
عا لبني قصر الضيافي
هيك بتنام الأسودي
جفن واعي وجفن غافي".
وبعيداً عن طقوس النوم، فلحساب النوم واليقظة من الأعمار آراء ومواقف عند الشعراء كعمر الخيّام: "فما أطال النوم عمراً...". وقد علّل أبو جودة هذا الحساب تعليلًا واضحاً.
وهنا نسرد نادرة من الحياة عن لاعب ميسر، له من العمر ستّون من السنين، وقد سُئل عن عمره فقال: "أنا عمري 60 وسهران ليل نهار، فبِكون عمري 120 سنة". فهل حساب هذا المقامر دقيق يا فلاح؟
قرأنا بهمس محبّب كتاب "على سيرة النّوم"، فأنصتت ريحانة تختلي بنفسها في ظلال القمر الفضيّ، منتظرة منه عهداً بالعودة حاملاً معه تاجاً وصولجاناً كي تزيّن بهما مملكتهما، وإسوارة راهبة من مجرّة درب التبّان، صاغتها بالدعاء، وآثرت النوم لتحلم بصحوة طفل بعد غفوة على أغاني سفيرتنا إلى النجوم: "النوم هو عادة الأولاد، تارة لكي يناموا ويحلموا:
(والنوم مين بنام غير لولاد
بيغفو وبيروحو
ولملمو أعياد...)" (صفحة 17).