تحت عباءة الموسيقى وأسرار العود، كنا مساء أمس الخميس في أمسية صمود أرادتها لجنة مهرجانات بعلبك الدولية في مسرح كركلا الأيفوار في سنّ الفيل - حرش تابت، لأنّ الظروف الأمنية القاهرة حالت دون أن نلتقي على أدراج بعلبك كالمعتاد.
الغذاء الروحي حمل عنوان "أوتار بعلبك"، وهو رسالة صمود مترابطة ومتكاملة من جزأين: الأول مع الموسيقي وعازف العود اللبناني شربل روحانا وفرقته، والثاني مع التقاسيم والمهارات الأدائية لفرقة "ثلاثيّ جبران" الفلسطينية الجذور والانتماء والهوية، والتي ذكر المايسترو عبد الحليم كركلّا لـ"النهار" أنّ "أعضاءها يعزفون بشغف العود وعواطف المشاعر "المتعمدة" بفكرهم لتعبر من الوتر إلى الناس هنا".
تحوّلت القاعة إلى فضاء عابق بالحبّ المفتوح، حبّ رائحة تراب بعلبك وأعمدتها وهاماتها، وهي صورة لتلك القلعة التاريخية الملوّنة " الضاحكة"، كشمس بعلبك في خلفيّة المسرح.
شدّدت كلمة رئيسة مهرجانات بعلبك الدولية السيدة نايلة دو فريج على أهمية هذه الأمسية كفعل تضامن وتبادل حول آلات وترية من "رحيق" اللون الشرقي من لبنان وفلسطين.
دخلنا طوعاً في محاولة لدمل جراحنا وما أكثرها، إلى منارة شربل روحانا وفرقته الموسيقية في رحلة من 45 دقيقة كسرت الحدود المفروضة جرّاء تراكم الأزمنة بين البشر، مقدّماً تمازجات موسيقية أثبتت قدرة روحانا على أن يكون في لحظات نادرة مبدعاً في قران بين عوده وعازف الكونترباص أو عوده والأكورديون...
لم تكشف ليلة السمر مع شربل روحانا وفرقته سحر الموسيقى فقط، بل تخطّتها في الأسفار، التي أخذنا إليها، من خلال معزوفة "سوار" بنفحة "السالسا"، التي كشفت تزاوج اللحن مع الإيقاع الإسبانيّ، ما سمح للمشاهد تخايل مشهد راقصة تتدلّل علينا بفستان غجريّ، متمايلة برقص الفلامانكو مع حبيبها.
اكتملت الوليمة في توابلها مع اللوحات الموسيقية من ريبرتوار شربل روحانا دائمة الترحال من "مياس" إلى "سلامي معك" فأغنية "زورا" الشرقية "السلسا" و"روزانا" بأمواجها العاطفية من وحي فلكلورنا...
أهدى روحانا في ختام الأمسية في عزف جمعه وأعضاء كلّ من فرقته وفرقة "ثلاثيّ جبران" أغنية هي تحية شوق "من بيروت إلى بعلبك" من كلمات غنّاها روحانا من وحي الصمود، وجاءت كصلاة لم ترتقِ إلى مستوى قصيدة، وجاء فيها: "كنّا منتمنّى نطلع عَ بعلبك/ نعزف سوى/ نغنّي سوى عَ دراج بعلبك/ لكن صار/ صار اللي صار/ رجعنا نزلنا على بيروت/ وبالقلب بعلبك/ مهما إيّامي تغيَّروا بيضلّ بيتي حلو ونبيذي عتيق/ مهما عيوني دمَّعوا ولا مرّة ضَيَّعوا/ رَح كمِّل الطريق/ بيروت وبعلبك إخوة/ والإخوة وقت الشِّدّة/ والفرح منعيدو/ ببعلبك رح منزيدو/ وبينعاد..."
التنقيب الموسيقي في سهرة العود رسا أيضاً في عالم فرقة " ثلاثيّ جبران" بريبرتوار من 45 دقيقة وسط أداء مميز لأحد أعضائها المتمرّس الساحر حبيب مفتاح، الإيرانيّ الجنسية، على إيقاع طبل أو الدرامز، كأنّه نقطة ارتكاز في المعزوفة وتفاصيلها.
ثلاثيّ جبران هم ثلاثة أخوة: سمير القادم من رام الله إلى بيروت، ووسام وعدنان من باريس، كلّ واحد مع عوده. تجتمع آلاتهم معًا كأنّهم ثلاثة عازفين منفردين يشكلون صوتًا واحدًا.
لقد أصبح العود، أو العود العربي، صوت أرواحهم، والقلب النابض لوجودهم، ما حثّهم أن يتّحدوا به في الروح مع عنصر مهمّ، صوت محمود درويش، الاسم البديل عن فلسطين كما وصفه سمير معنا في تلك الموسيقى، التي عكست الغضب، الألم والأمل والحبّ والشوق والوجع.
يغوص "الثلاثيّ جبران"، الذي مرّ على تأسيسه 20 عاماً هذه السنة، في هذا البحر الجميل من الكلمات والعواطف بآلاتهم، ويتحدثون مع الشاعر بشغف كبير بمقدّمة في الأمسية لدرويش بعنوان "خطية الهندي الأحمر -ما قبل الأخيرة- أمام الرجل الأبيض"، يجسّد من خلالها الأدب المأساة وسط أوتار تشبه الوجع، أوتار لا ترحم لأنّها تعبق بعطر عود كلّ منهم.
هل يُكتب تاريخ فلسطين ووجع فلسطين من خلال عود "الثلاثيّ جبران"؟ الانتقال من معزوفة إلى أخرى يجسّد عبر المقامات المختلفة صوراً عن المسيرة الطويلة ومسارها، وقوّة الوقوف في وجه الريح القادمة إلينا...
توالت الموسيقى والجمهور يتفاعل وسط عنفوان وتر العود لنصل إلى صوت محمود درويش مذكراً إيّانا في قصيدة "حاصر حصارك" بقوّة المقاومة حتّى النصر، مجاهراً الجمهور بنبرة درويش نفسه أنّ "على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة".