ليست الكتابة عن كبارٍ مرّوا في التاريخ مجرّد سردٍ، بل هي استشرافٌ لما قد يحصل في المستقبل القريب أو البعيد، لأنّ الوحي بالكتابة ينبع من عوالم الكاتب الجوّانيّة، ويصبّ في موروثه وفي أهداف دار النشر، كما حصل مع الكاتب جوزيف كحّالة ودار نعمان للثقافة.
كتاب "الكاردينال غريغوريوس بطرس الخامس عشر أغاجانيان" للباحث جوزيف كحّالة، هو الكتاب الأوّل والوحيد في جميع لغات العالم بتاريخ صدوره، قد وثّق حياة هذا الكاردينال المكرّم، فقد صدر عن دار نعمان للثّقافة بطبعته الأولى في تشرين الثاني 2021، ضمن سلسلة "كبار في ذاكرتنا" التي يهتمّ بتوثيقها المطران جورج أسادوريان، والباحث الدكتور جوزيف كحّالة، والأديب الأستاذ ناجي نعمان صاحب دار النشر الذي صدر عنه الكتاب.
تصدّرت الكتاب البالغ 175 صفحة، سيرة موسّعة في 30 صفحة عن الكاردينال البطريرك أغاجانيان، وتبعتها سِيَر بطاركة الأرمن الكاثوليك، البالغين واحداً وعشرين بطريركاً في 79 صفحة. كما ضمّ الكتاب تصديراً للمطران جورج أسادوريان تحت عنوان "العظماء لا يموتون"، بالإضافة إلى مقدّمة وتمهيدٍ بقلم الباحث كحّالة، ومقطع من إحدى عشْرة صفحة تحت عنوان "المجمع الفاتيكانيّ الثاني ودور الكنيسة الأرمنيّة فيه".
من يتتبّع سيرة هذا الكاردينال، يشرد في مفاصل الروح باحثاً عن أمنية، وكأنّه يسمع هائم الريح بين الصواري، تبشّر باسترداد طوباويّ من فسحات الغربة، فتنطوي ربوع وطن الفينيق في كفّيه، وينفخ القدر في أرجائها ملامح العودة. وها قد عاد ودخل وطن القدّيسين على أجمل سجّادة فينيقيّة مطرّزة، كالتي أهديت إلى مملكة ماري في وادي الفرات على عهد زمري ليم سنة 1775 ق م.
خطفه أمر الطاعة من ربوع لبنان الذي أحبّه حبّاً جمّاً، وكان للمسؤوليّة كالخادم الأمين الذي تاجر بالوزنات الخمس وضاعفها: "فعَيّن البابا الثالث والعشرون على الفور الكاردينال أغاجانيان رئيساً للمجمع، وكان يديره على نحوٍ غير مباشر منذ العام 1958. وبذلك، خضعت فعليّاً لسلطته أكثر من 700 مقاطعة كنسيّة، على رأسها أكثر من 700 أسقف، و30 ألف كاهن و70 ألف راهبة" (صفحة 40).
كما أشار الانجيليّ متّى: "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم" (مت 18: 20)، فقد كان الكاردينال أغاجانيان من أوائل الأساقفة الذين دعوا إلى وحدة الكنائس، وقد صافح الحياة بحرارة الإيمان، وطيب الأعمال، والسعي الدؤوب نحو الوحدة، "كما أدرك أنّه لا بدّ من الانفتاح على الآخر لدفع الحركة المسكونيّة نحو الوحدة في الكنيسة. ولهذا الهدف، قام أغاجانيان بتنظيم لقاءٍ تاريخيّ بين البابا بولس السادس والكاثوليكوس خورين الأوّل، وهيّأ لقاءً آخر بين البابا والكاثوليكوس فازكين الأوّل" (صفحة 44).
أضاءت هذه السيرة على مراحل حياة الكاردينال أغاجانيان، وعلى فكره في الاهوت العقيديّ. كما ضمّت كتابات عديدة به لكهنة وأساقفة، ومنها ما قاله المطران بطرس مراياتي في خطاب لمناسبة الذكرى المئويّة لولادته: "إنّ الكنيسة الجامعة ستدوّن اسمك بأحرف ذهبيّة على صفحات تاريخها العريق لتشهد للأجيال القادمة بجميل صنيعك في عالم الدّين وبإخلاص تفانيك من أجل العدل والسلام" (صفحة 50).
لقد قال كثيرون بنظرية لبنان بلد الملجأ منذ أوائل القرن الماضي، منهم الأب اليسوعيّ هنري لامنس وقد يكون رائدهم، والمفكّر السياسيّ جواد بولس، والمؤرّخ فيليب حتّي... كما انتقدها آخرون. لكن الكاردينال أغاجانيان قد آمن بهذه النظريّة إيماناً مطلقاً عبر خدمته الراعويّة، كبطريرك لطائفة الأرمن الكاثوليك من مقر البطريركيّة الكائن في ربوع لبنان الجميل في بلدة بزمار قضاء كسروان، اعتباراً من سنة 1937 إلى سنة 1962: "وفي العام 1962، اضطرّ البطريرك الكاردينال أغاجانيان إلى الاستقالة من منصبه البطريركيّ، وغادر بيروت ليستقرّ نهائيّاً في روما حيث تفرّغ لعمله في رئاسة مجمع انتشار الإيمان" (صفحة 40).
هذا القفقازيّ المولد، والجورجيّ الهويّة، آمن بالوطن اللّبنانيّ المنذور لعواصف الموت والحروب. وعلى الرغم من ذلك لجأ إليه العديد من طائفة الأرمن الكاثوليك بعد نكبتهم منذ حوالي مئة عام، كما لجأ إليه العديد من الشعوب المضطهدة. فقد تضمّنت وصيته بأن يدفن في لبنان في كاتدرائيّة مار غريغوريوس ومار الياس النبي للأرمن الكاثوليك في ساحة الدبّاس في العاصمة اللّبنانيّة بيروت. وكان هذا الوطن الصغير بجغرافيته والكبير بقدّيسيه ملجأه في حياته ومماته. وها قد عاد إليه بعد انتقاله إلى دنيا البقاء قبل نصف قرن، بجسد معافىً. فحين تنظر إلى جثمانه الطاهر، تحسبه في نوم عميقٍ، مبتسماً، فرحاً بالعودة، مما يجعلك تشاركه حلمه بالسلام الأبديّ.