"من إلو ضهر ببيروت بعيش، ومين ما إلو بعيش بقلق"، جملة تردّدت على مسمع الجميع في وثائقي زكريا جابر، ابن الكاتب والمخرج يحيى جابر، حيث يتجلى القلق كسيّد الموقف في حياته وحياة عائلته اليومية، ولتصل بُعيدها قصته إلى العالمية، حين قلّد جائزة الكأس الذهبية في مهرجان شانغهاي السينمائي الدولي، الذي يُعتبر من أهم المهرجانات الدولية وأكبر مهرجان آسيوي للأفلام.
احتضنت الصين الرؤية الإبداعية لزكريا، كما بلاد غربية عدّة، فوقف الجميع تصفيقاً لقصّة تعكس التحدّي اليوميّ للعيش في بلد تميّز بأزمات على مختلف الصُعّد، وما يزال يغرق لغاية اليوم في مستنقع الجمود والركود والشلل السياسيّ والاقتصادي. فبعد أربعة أعوام من حقبة الثورة والانتفاضة، ينقل زكريا بعدسته المتواضعة تلاشي الأمل في زمن يتعلّق الجميع بذرّة تفاؤل لمستقبل أفضل، فهل ما تزال الثورة كامنة في النفوس؟ وكيف بدأ زكريا فيلمه الذي سيكون نافذته إلى الخارج؟
بداية المشروع
في حديث لـ"النهار"، أفصح جابر عن بداية مشروعه وعن الفكرة التي راودته ليستهلّ تصوير الوثائقي، فيقول إنّ "الإنتاج الحقيقي بدأ عام 2019، ولكن لطالما ردّدتُ تعبير "قلقٌ في بيروت" كأنه لحن عالق في دماغي. وفي 2016 بدأت أصور مغادرة أصدقائي من لبنان، وباشرتُ رحلة الدّخول في خصوصيّة حياة المقرّبين منّي، وبدأت أصوّرهم كي يعتادوا على فكرة الكاميرا الحاضرة قربهم".
ولفت جابر إلى أنّ "رحلة اكتشاف هويتي كانت طويلة. بعد سفري عام 2018 إلى تركيا، عدت مع أصدقائي إلى لبنان في 2019، وصدفةً اجتمعنا جميعاً في 5 تشرين من دون معرفة سابقة بالواقع الذي ينتظرنا في الأيام المقبلة. كنت أفكر حينها في عملي الذي لا يزال "قيد الانتظار". في هذه الفترة، اندلعت ثورة 17 تشرين، ورأيت الساحة الحاشدة، ممّا جعلني أصوّر وأنزل إلى الشارع يومياً، فضلاً عن نشر فيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد رفضي إعطائها لأي وسيلة إعلامية". ويضيف: "في تلك الفترة، قرّرت عدم حرق المادة التي كانت بحوزتي. أردت استغلالها، وألمحت لي حينها المنتجة جمانة سعادة بأنّ المضمون الذي أنشره قد يدّل على "طبخة جديدة". أخبرتها حينها بفكرة "قلق في بيروت"، ثمّ بدأنا العمل على المضمون، وتابعنا تصوير الثورة بغية إنتاج فيلم عنها بطريقة معمّقة، خصوصاً في ظلّ ما اعتبرته "حرب الأجيال". كان يتوجب عليّ توثيق هذه اللحظات، لكنّني قاطعت طموحي جائحة كورونا، والتزمنا بيوتنا. كنّا نُريد أن نسافر مجدّداً، بس حتى طيارة ما كان في".
بنكهة شخصية، ينقل جابر أحداث الثورة، كورونا وانفجار الرابع من آب. كلّ ذلك من خلال عدسته التي رافقته طوال رحلته. حتى في فترة الحجر الصحيّ، بقي يفرّغ ويصوّر مضموناً، طامحاً إلى ألا يستقبل أيّ خبير اقتصادي أو أيّ فرد مختصّ خلال تصوير الوثائقي.
لكن ألم يجد نفسه منحازاً في نقله للأحداث؟
يعتبر جابر في جوابه لـ"النهار" أنّ هناك نوعين من الأفلام الوثائقية، أوّلهما الذي يتكلّم أو يعلّم الناس لغة جديدة، فيما الثاني وثائقي "بروباغندا "، خصوصاً في المواضيع المتعلّقة بمسألة الثورة والانتفاضة. وهذا النوع شائع في سوريا على سبيل المثال. تالياً، يرى جابر أنّ رؤيته واضحة، وبالفعل منحازة إلى طرف معين، خصوصاً في محاولته ترويجَ "الصورة الحقيقية للدولة".
"يا طيّارة يا تابوت"
يردّد جابر جملة "يا طيّارة يا تابوت"، ممّا يعني الموت أو الهروب، إذ يرى أنّ مَن يشعر بالاستسلام عليه مغادرة لبنان، كما يجب عليه أخذ القرار بالاعتراف بالعيش في تابوت أو الهجرة، فضلاً عن مواجهة خصمه ومحاربته. لكن هل ذلك يعني أنّ لا أمل في المستقبل؟
يعتبر جابر أنّ عدم الاعتراف بفشل الثورة، يضعنا أمام "كارثة"، هو من كان على تأهّب وانتظار لانتهائها، ويُضيف: "صُدمنا بالفشل عام 2015، خصوصاً مع حراك "طلعت ريحتكن". في تلك الحقبة كنّا نواجه جهتين، جهة المجتمع المدني، وجهة النظام. وبالموازاة لا شكّ أنني أتّفق مع مبادئ المجتمع المدنيّ، لكنني أعارضهم على كيفية التنفيذ. فحين اندلعت المواجهة، وشاهدنا "تخبّط" المجموعات ببعضها البعض، بالرغم من انتمائي إلى جزء منها، سيطرت عليّ خيبة الأمل. وهذا السيناريو تكرّر مع ثورة 17 تشرين. كنّا ننتظر يوم فشل الحراك، بالرغم من أنّني مجّدت هذه الحقبة في الوثائقيّ، إذ كنت بالفعل مفعماً بالأمل، وعلمت بأنّها لن تنجح؛ لذا أعطي الحراك عنوان الانتفاضة وليس ثورة".
أشار جابر إلى أنّه من المحبّذ تقديم ورقة سياسية تتفّق عليها جميع الجهات في الانتفاضة المقبلة، وما علينا فعله هو التعلّم من تجارب سابقة، مضيفاً: "لن أكون من الأشخاص الذين يعتبرون أنّ "ثورة 17 تشرين لن تموت". لماذا نعطي أملاً زائفاً؟
فشلت، ونحن الآن في مكان صعب للغاية، وما علينا فعله هو الاعتراف بالفشل لبلورة خطوتنا المقبلة".
فوز في مهرجان شانغهاي
في سياق فوزه في مهرجان شانغهاي السينمائي الدولي، يشدّد جابر على أنّ هذا الفيلم ليس لبنانياً، لافتاً إلى أنّ "القصّة تتمحور حول أحداث لبنانية، لكن الفيلم أردنيّ، لبنانيّ، قطريّ، وإسبانيّ. لا يُمثّل هذا الفيلم بلدي، بل يمثّل قصتي التي هي لبنان، وفي الوقت نفسه أمثّل فئات عدّة".
وتعقيباً على سؤال عن الخوف لعرضه الحقيقة، يرى جابر أنّه لم يكن يوماً متطرّفاً بآرائه كي يعرّض نفسه لخطر ما، وجُلّ ما يفعله هو عرض الوقائع والاعتراف بالطرف الآخر كخصم. لكن ذلك لم يمنعه من الشعور بالخوف الدائم والقلق، مشيراً إلى أنّ "خوفه في المقام الأوّل هو من عدم وصول الفيلم إلى السوق اللبنانية، وذلك جرّاء أمور عدّة، أبرزها مسألة الرقابة، (بسبب وجود وجوه عسكر وجمل مسيئة للدولة). سيحاربون وصول الفيلم إذ أثبتت التجارب السابقة هذه الفرضية. لكن ما أحاول فعله هو أن أجول باسم الفيلم حول العالم ليلاقي صدى كبيراً. لكنّني أخاف من ألا ينتشر في لبنان. ونحن نبحث في سبل عرضه في صالات السينما، لكن لا شيء مبلوراً حتى الآن، لكنّه سيبثّ العام المقبل على قناة "الجزيرة".