بعد مرور خمسين عاماً، لا يزال السبب الحقيقي لوفاة الشاعر التشيلي بابلو نيرودا، في أعقاب انقلاب عام 1973، موضع شك في جميع أنحاء العالم.
لم يكن الحائز جائزة نوبل أحد أشهر الشعراء في العالم فحسب، بل كان أيضاً أحد أكثر النشطاء السياسيين تأثيراً في تشيلي. كان شيوعياً صريحاً، ودعم سلفادور أليندي، رئيس تشيلي اليساري من عام 1970 إلى عام 1973، وعمل في إدارته.
حُدّدت وفاة نيرودا في عيادة خاصة بعد أسابيع فقط من الانقلاب على أنها نتيجة للسرطان. لكن التوقيت والظروف أثارت الشكوك منذ فترة طويلة عما إن كانت وفاته حادثاً مفتعلاً أم بسبب إصابته بسرطان البروتستات.
ومرة أخرى، تترك النتائج مسألة ما إن كان نيرودا قُتل مفتوحة.
من هو؟
كان نيرودا مشرعاً تشيلياً وديبلوماسياً وشاعراً حائزاً جائزة نوبل. كان أحد أعظم شعراء أميركا اللاتينية وكان المتحدث الرئيسي باسم الحركة اليسارية في تشيلي حتى صعود الرئيس الاشتراكي، أليندي، في عام 1970.
قبل أيام قليلة، استعرضت صحيفة "نيويورك تايمز" ملخص النتائج التي جمعها خبراء الطب الشرعي الدوليون الذين فحصوا رفات نيرودا المستخرج وحدّدوا البكتيريا التي يمكن أن تكون قاتلة.
وُلد في 12 تموز 1904، ونشأ في بارال في بيئة زراعية صغيرة في جنوب تشيلي. تُوفيت والدته، وهي معلمة مدرسة، بعد وقت قصير من ولادته. كان والده موظفاً في السكك الحديدية ولم يدعم تطلعاته الأدبية. على الرغم من ذلك، بدأ نيرودا كتابة الشعر في سن الـ13.
خلال حياته، شغل نيرودا العديد من المناصب الديبلوماسية في دول من بينها الأرجنتين والمكسيك وإسبانيا وفرنسا. حتى نهاية حياته، كان منخرطاً في النشاط السياسي كما في الشعر. تُوفي نيرودا في عيادة في سانتياغو، عاصمة تشيلي، عن عمر يناهز 69 عاماً.
وجاءت وفاته بعد أقل من أسبوعين من وفاة صديقه وحليفه السياسي أليندي الذي تُوفي منتحراً لتجنّب الاستسلام للجيش بعد إطاحة حكومته في أيلول 1973.
سياسي ملتزم
خلال الفترة التي قضاها في برشلونة، إسبانيا، ديبلوماسياً، دفعت تجربة نيرودا في الحرب الأهلية الإسبانية إلى موقف سياسي أكثر انخراطاً. وكتب لاحقاً: "منذ ذلك الحين، كنت مقتنعاً بأن من واجب الشاعر أن يتخذ موقفه".
فقد الديبلوماسي منصبه بسبب دعمه للجمهورية الإسبانية، التي تم حلها بعد استسلامها للجنرال فرانسيسكو فرانكو.
نيرودا، وهو عضو مدى الحياة في الحزب الشيوعي، خدم لفترة واحدة فقط في المنصب. بصفته عضواً في مجلس الشيوخ، كان ينتقد حكومة الرئيس غابرييل غونزاليس فيديلا، الذي حكم تشيلي من عام 1946 إلى عام 1952، ما أدّى بنيرودا إلى المنفى القسري لمدة أربع سنوات.
عاد إلى بلاده في عام 1952، وهو شخصية أدبية يسارية، لدعم حملة أليندي للرئاسة، التي لم تنجح في ذلك الوقت وفي محاولتين أخريين. عام 1970، تم سُمّي نيرودا المرشح الشيوعي لرئاسة تشيلي حتى انسحب لصالح أليندي - الذي انتُخب أخيراً في ذلك العام.
أهمّيته
نيرودا من أبرز الشخصيات في أميركا اللاتينية في القرن الـ20 لشعره ونشاطه السياسي - داعياً إلى تدخل الولايات المتحدة في الخارج، وشجب الحرب الأهلية الإسبانية ودعم الحزب الشيوعي في تشيلي. تُرجمت كتبه إلى أكثر من 35 لغة.
ومع ذلك، كان نيرودا أيضاً رجلاً مثيراً للجدل، ولا سيما في قضيّة ابنته التي وُلدت مصابة باستسقاء الرأس وتُوفيت في سن الثامنة، عام 1943. وأعيد النظر فيه أخيراً، في ضوء ما وصف في مذكراته عن اعتداء جنسي على خادمة.
كان نيرودا كاتباً غزير الإنتاج، أصدر أكثر من 50 منشوراً في الشعر والنثر، بدءاً من القصائد الرومانسية إلى فضح السياسيين التشيليين وتأمّلات في معاناة إسبانيا التي ابتُليت بالحرب الأهلية. وقد تردّد صدى نشاطه المتحمّس من أجل العدالة الاجتماعية ومجموعة قصائده الواسعة في جميع أنحاء العالم، ما جعله رمزاً فكرياً للقرن الـ20 في أميركا اللاتينية.
نشر كتابه الأول "الشفق" في عام 1923 في سن الـ19، وفي العام التالي أصدر 20 قصيدة حب وأغنية يأس. جعلته هذه المجموعة شاعراً كبيراً، وبعد ما يقرب من قرن من الزمان، لا يزال كتاب الشعر الأكثر مبيعاً في مزاد Spani في برشلونة.
أثرت رحلاته كديبلوماسي أيضاً في عمله، كما هي الحال في مجلدين من القصائد بعنوان "الإقامة على الأرض". وكانت علاقته بالشيوعية واضحة في كتابه "كانتو جنرال"، حيث يروي تاريخ الأميركيتين من منظور إسباني.
لكن ميله نحو الشيوعية كان من الممكن أن يؤخر جائزة نوبل، التي مُنحت عام 1971 لمجمل أعماله.
الجدل الدائر حول وفاته!
بعد انقلاب تشيلي، أحد أعنف الانقلابات في أميركا اللاتينية، دهمت القوى الأمنية ممتلكات نيرودا. عرضت الحكومة المكسيكية نقله هو وزوجته ماتيلد أوروتيا خارج البلاد، لكنه أُدخل إلى عيادة سانتا ماريا بسبب سرطان البروستات.
في مساء 23 أيلول 1973، ذكرت العيادة أن نيرودا تُوفي بسبب قصور في القلب. في وقت سابق من ذلك اليوم، اتصل بزوجته قائلاً إنه يشعر بالمرض بعد تلقي الدواء.
في عام 2011، ادّعى مانويل أرايا، سائق نيرودا في ذلك الوقت، علناً، أن الأطباء في العيادة سمّموه عن طريق حقن مادة غير معروفة في معدته، قائلاً إن نيرودا أخبره بذلك قبل وفاته. على الرغم من أن الشهود، بمن فيهم أرملته، رفضوا الشائعات، طعن البعض في الادّعاء أن نيرودا تُوفي بسبب السرطان.
وأدت الاتهامات في نهاية المطاف إلى إجراء تحقيق رسمي. في عام 2013، أمر قاض باستخراج رفات الشاعر وإرسال عينات إلى مختبرات الطب الشرعي الوراثي.
في عام 2017، أعلنت مجموعة من محققي الطب الشرعي أن نيرودا لم يمت بسبب السرطان، وأنهم عثروا على آثار بكتيريا سامة محتملة في أحد أضراسه. وسلمت اللجنة النتائج التي توصلت إليها إلى المحكمة وطلب منها محاولة تحديد أصل البكتيريا.
وفي التقرير النهائي الذي قُدّم إلى قاض تشيلي الأربعاء الماضي، قال هؤلاء العلماء إن أدلة ظرفية أخرى تدعم نظرية القتل، بما في ذلك حقيقة أنه في عام 1981، سمّمت الديكتاتورية العسكرية السجناء ببكتيريا يُحتمل أن تكون مشابهة للسلالة الموجودة في نيرودا، لكن هذه المسالة تم تناولها بدون مزيد من الأدلة، ما جعلهم يعجزون عن تحديد سبب وفاة نيرودا.
Twitter:@rosettefadel