تستذكر أوساط الفن السابع في بيروت المخرج مارون بغدادي، من خلال سلسلة أنشطة تقام في العاصمة اللبنانية في ذكرى مرور 30 عاماً على رحيل صانع أفلام، والذي ساهم مع آخرين في ولادة "السينما اللبنانية الجديدة"، بحسب ما قال عارفوه.
في الطبقة الأرضية من مبنى صحيفة "السفير" في بيروت، توزعت صور نادرة بالأبيض والأسود وبالألوان للمخرج الطليعي الذي لقي حتفه عام 1993 في حادث سقوط في حفرة مصعد المبنى الذي كان يقطنه والداه في العاصمة اللبنانية، قبل أن يكمل عامه الرابع والأربعين.
وتُظهر هذه اللقطات بغدادي طفلاً وتلميذاً وشاباً وصحافياً ومخرجاً وراء الكاميرا وزوجاً وأباً ومحمولاً على الأكفّ في تشييعه. وتزين ملصقات أفلامه وأبرز المقالات عن أعماله جانباً من معرض يقيمه "نادي لكل الناس" الذي يعنى بالحفاظ على أرشيف السينما اللبنانية من الاندثار.
بيروت من فوق
في دار "السفير" التي توقفت عن الصدور في كانون الأول 2016، "ولدت السينما اللبنانية الجديدة قبل 50 عاماً على أيدي مارون بغدادي وبرهان علوية وجان شمعون وبهيج حجيج، برعاية الجريدة التي احتضن مؤسسها طلال سلمان هذا الحراك السينمائي وشجعه"، بحسب الناقد السينمائي ابراهيم العريس.
ولاحظ العريس أنه "كان التيار السينمائي الوحيد الذي نشأ خلال مئة عام من عمر السينما اللبنانية وكان لبغدادي الدور الأساسي فيه".
واستطاع بغدادي رغم حياته القصيرة أن ينجز عدداً كبيراً من الأعمال الوثائقية والروائية، من أبرزها "حروب صغيرة" و"الرجل المحجّب" و"فتاة الهواء" و"خارج الحياة" الذي نال عنه جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان عام 1991، "وكان من افضل السينمائيين الذي صوروا بيروت من فوق، أي سطوح أبنيتها"، على قول الإعلامي ربيع الشامي في ندوة ضمن أنشطة الذكرى الثلاثين لرحيل المخرج.
وإذ وصف العريس بغدادي الدائم الاستعجال للإنجاز في عمله بـ"الرجل الراكض"، رأى الشامي أن شخصيات افلامه "كانت تركض ضائعة لتلاقي مصيرها تماماً متل ما كانت ركضته الأخيرة على درج بيت أهله في بيروت حيث سقط".
وروى المصوّر حسن نعماني الذي كان بمثابة "عين بغدادي خلف الكاميرا" أنه "كان يتسلق بخطوة واحدة كل ثلاث درجات من المبنى الذي كان يقيم فيه لشدّة ما كان دائماً على عجلة من أمره، وهكذا هوى ولم يكن بعد أكمل عامه الرابع والأربعين".
كان نعماني يعمل مصوراً في "تلفزيون لبنان" الرسمي حين التحق بغدادي بالمحطة وشارك في إعداد برنامج ثقافي بعنوان "تسعة ونص". وقال "أنجزنا الكثير من الأعمال الوثائقية عن بيروت وأحيائها وناسها وفنانيها".
وأشار نعماني الذي رافق بغدادي في تصوير الكثير من أفلامه إلى أن المخرج الشاب الذي اندلعت الحرب في لبنان بعد أيام من عرض فيلمه "بيروت يا بيروت"، "استأجر كاميرا" ليصور "همسات" الذي يوثق الحرب، وفيلم "تسعون" عن الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة، و"تحية الى كمال جنبلاط"، ثم "اشترى كاميرا لأن السينما كانت هدفه".
"هو السينما"
فالسينما كانت "عالمه"، وفق الروائي حسن داوود، كاتب سيناريو فيلم "زوايا" الذي لم يرَ النور بسبب وفاة بغدادي، ويتناول قصة طبيب لبناني ترك فرنسا ليزور والدته المريضة وليثأر لمقتل أبيه خلال الحرب.
وقال داوود إن "مارون كان هو السينما، ليس فقط لأنه يعمل في مجالها، ولكن في طريقة عيشه، في بيته وسيارته ومظهره والطريقة التي يتكلم بها وقدرته على قبول الناس وإقناعهم، وهذا جانب لا ينسى من شخصيته".
ورأى الباحث والمؤرخ اللبناني فواز طرابلسي أنه كان "سريعاً وطموحاً وموهوباً جداً وصياد لقطات يعرف متى يقطع المشهد".
وتناول بغدادي الذي كان "ملتزماً باليسار" ثم "خاب أمله به"، بحسب طرابلسي، ما وصفه الباحث بـ"الانشطار اللبناني" في فيلمه "لبنان بلد العسل والبخور". أما "أجمل الأمهات" فيُظهر "وحدة الشهداء وتنوعهم الشخصي والمناطقي"، على قول طرابلسي.
واعتبر طرابلسي أن بغدادي "أفضل من صوّر أفلاماً تسجيلية عن جنوب لبنان"، مشيراً إلى أنه، في "كلنا للوطن" الذي تناول عام 1979 أول غزو إسرائيلي للبنان، "ركّز على الأطفال مبرزاً ملامحهم".
ويقيم "نادي لكل الناس"، إضافةً إلى المعرض والندوة، عروضاً استعادية لعدد من أفلام بغدادي، مرممة أو بسنخها الأصلية، ضمن أنشطة الذكرى الثلاثين لوفاته.
وإضافةً إلى أفلام بغدادي، تحتضن الطبقتان السفلية والثالثة من مبنى "السفير" الذي اتخذه النادي مقراً منذ انفجار مرفأ بيروت في 4 آب.