في الرابع من شهر آب من عام 2020، دّوى صوت انفجار مرعب دمر جزء كبير من مرفأ بيروت. ولّد هذا الانفجار حالة من الذهول والصدمة لدى اللبنانيين، وتركت القوة الهائلة للانفجار والصدمات الناتجة عنه علامة لا تمحى على التراث الثقافي للمدينة، إذ تعرضت العديد من المباني التراثية في بيروت، والمحيطة بموقع الانفجار، لأضرار جسيمة، الأمر الذي جعل مهمة ترميم هذه المعالم الثقافية والحفاظ عليها عملية شاقة وملحة في الوقت نفسه.
كان انفجار المرفأ بمثابة ضربة موجعة للتراث الثقافي في مدينة بيروت، وترددت أصداء الانفجار على أكثر من صعيد، في كل زاوية وبقعة من المدينة، ما جعل الكثيرين يتساءلون عما إذا كان من الممكن حقاً استعادة التراث الثقافي الغني للمدينة، مع الأخذ بعين الاعتبار حالة عدم الاستقرار في المنطقة بشكل عام والتي قد تتسبب في زيادة تفاقم الأضرار وإعاقة جهود الحفاظ على التراث الثقافي للمدينة.
ومع ذلك، في مواجهة هذه المأساة، رفض أهالي بيروت التنازل عن تراث مدينتهم. لقد أدركوا الأهمية الحيوية لإنقاذ تراثهم الحضري والحفاظ عليه، لأنه لا يمثل المظهر المادي لتاريخهم فحسب، بل يعمل أيضًا كجسر متين يربطهم بذكرياتهم وتجاربهم الجماعية. من هنا برزت أهمية مشروع دعم التراث الثقافي في بيروت (BACH)، وكان بمثابة الاستجابة العاجلة من قبل اللاعبين الرئيسيين في مجال التراث الثقافي في لبنان، بقيادة المديرية العامة للآثار (DGA)في وزارة الثقافة اللبنانية، لكارثة كبرى عرّضت للخطر القيم الحضرية والاجتماعية والاقتصادية والمعمارية للأحياء التاريخية في بيروت.
مشروع دعم التراث الثقافي في بيروت يتمسك بالهوية والانتماء
دمر الانفجار نسيجًا حضريًا ثمينًا حول المرفأ، الأمر الذي جعل مشروع دعم التراث الثقافي في بيروت، والذي انطلق فوراً بعد الانفجار، يركز في المقام الأول على الحفاظ على التراث الثقافي للمدينة، إلى جانب الجهود الأخرى التي كانت تبذلها المؤسسات المعنية في تقديم المساعدات اللازمة لمعالجة الجرحى وإسعاف المصابين. برز هذا المشروع كصرخة حاشدة لسكان بيروت، لتوحيد الأفراد والمؤسسات من جميع الأطياف ومناحي الحياة، في مهمة جوهرية ومشتركة لإنقاذ تراثهم الثقافي والحفاظ على النسيج الحضري للمدينة.
ولمعالجة تدابير الإغاثة، كان على المشروع القيام بتدخلات كبيرة في مجال الحفظ والترميم، من بينها تدعيم المباني التاريخية التي كانت على وشك الانهيار، وحماية الأسطح القرميدية التقليدية من تسرب المياه قبل موسم الأمطار، وأعمال التوثيق وتقييم الصيانة المطلوبة لعدد كبير من المباني التراثية. كما كان على المشروع الأخذ بالاعتبار الحاجة لمساعدة المنظمات غير الحكومية الغير مؤهلة مهنياً في أعمال الترميم، وتدريب متخصصي البناء على الحرف التقليدية، وضمان أعمال الترميم السريع لعودة العائلات المتضررة إلى مساكنهم، وضمان إعادة تأهيل الأماكن العامة في المدينة لاستعادة روح النسيج العمراني، وأخيراً ضمان استعادة حركة الأعمال الفنية الإبداعية التي تضفي روح مميزة للمدينة.
يتحدث المهندس جان ياسمين، خبير إرث ثقافي وترميم تراث مبني وممثل فريق مديرية الاثار لدعم التراث الثقافي في بيروت، عن أهمية هذا المشروع وتفرده قائلاً "بدأ مشروع دعم التراث الثقافي في بيروت على الفور في اليوم التالي للانفجار. بدون أي أموال أو خطة طوارئ محددة في البداية، ولكن خلال بضعة أيام تم إجراء مسح تفصيلي وتقييم شامل لكافة المواقع المتضررة والخروج بخطة عمل واضحة لكافة مراحل المشروع. بالإضافة إلى التخطيط الجيد والتمويل الكافي، كان نجاح المشروع يعتمد أساساً على التفاني الوطني الخالص والمستوى المهني العالي من الخبرة لإنقاذ نسيج التراث الحضري المدمر للمدينة."
ويضيف المهندس جان قائلاً "تم تنفيذ مشروع دعم التراث الثقافي في بيروت بالتنسيق مع BBHR2020، وهي مجموعة من المهندسين المعنيين بالحفاظ على التراث، وبالتعاون مع الجهات الفاعلة الرئيسة في مجال التراث في لبنان والمنطقة، لحماية وإنقاذ واستعادة الأصول التراثية المتضررة من الانفجار. في الواقع، يمكن القول إنه لو لم يتم تنفيذ هذا المشروع، لفقدنا إلى الأبد العديد من المنازل والأعمال الفنية التاريخية، التي تشهد على ثراء ماضي بيروت، وتستحضر مشاعر الهوية والانتماء."
سمح مشروع دعم التراث الثقافي في بيروت باستعادة الأصول التراثية المادية وغير المادية لبيروت القديمة. واليوم تم تأهيل العدد الأكبر من المباني وعاد السكان إلى منازلهم، كما استعادت الشركات الصغيرة في الشوارع المتضررة والنشاطات الفنية والصناعات الحرفية والحانات والمطاعم مساحاتها وعادت لأعمالها. لقد عادت الروح العبقرية التي صنعت ألق هذه المنطقة قبل الانفجار إلى مكانها. ولا شك أن سكان بيروت يحق لهم أن يفخروا بولادة مدينتهم من جديد بعد هذا التحدي الكارثي.
ويؤكد المهندس جان ياسمين على دور المشروع في الوصول إلى هذ النتيجة قائلاً "شارك مشروع دعم التراث الثقافي في بيروت بنشاط في هذا المسعى، إذ أظهر المشروع إرادة كل من الناس وأصحاب المصلحة في إعادة تعريف قيمهم الثقافية، وخاصة تلك المتعلقة بالتراث. لقد دفع اللبنانيين إلى التفكير في معنى التاريخ، ولكن أيضاً في أبعاد وخصائص التراث الذي يجب الحفاظ عليه. وأظهرت في الوقت نفسه إرادة قوية وحباً غير مشروط للوطن."
في حين ركز مشروع دعم التراث الثقافي في بيروت بشكل أساسي على ترميم المباني التراثية في بيروت، فقد أولى أيضاً اهتماما كبيراً للحفاظ على المباني السكنية القديمة في المنطقة المتضررة من المدينة محافظاً على الذكريات التي تحملها. لم تكن هذه المباني، بأساليبها المعمارية الفريدة وتاريخها الغني، مجرد هياكل مادية أو معمارية صرفه، بل كانت حاضنات حقيقية للتجارب الحياتية للأشخاص الذين أطلقوا عليها اسم "الوطن".
ومن خلال إنقاذ هذه المساحات السكنية وإحيائها، تأكد المشروع من أن التراث غير المادي لبيروت – هذا الكم الرائع من القصص والتقاليد والذكريات التي تنتقل عبر الأجيال - لن يضيع أمام ويلات الزمن والدمار. إذ تعمل هذه المباني بمثابة روابط ملموسة لماضي المدينة، ما يسمح لسكان بيروت بالتواصل مع جذورهم والحفاظ على الشعور بالاستمرارية في مواجهة الاضطرابات.
جائزة ايكروم الشارقة تكرم جهود الحفاظ على التراث الثقافي في بيروت
إن الحفاظ على التراث الثقافي ليس مسؤولية الحكومات والمنظمات الدولية وحدها؛ إنه مسعى جماعي يتطلب المشاركة الفعالة للمجتمعات المحلية. في بيروت، كانت استجابة المجتمع المحلي للانفجار ملهمة، حيث اجتمع السكان والمتطوعين، إلى جانب الجهات الحكومية المعنية، لإزالة الأنقاض وتأمين المباني التاريخية، وتنظيم الجهود لدعم ترميم المعالم الثقافية. تعد هذه المشاركة الشعبية أمرًا ضروريًا، لأنها لا تساعد فقط في الحفاظ على التراث المادي ولكنها أيضًا تعزز إحساس المجتمع بالهوية والقدرة على الصمود.
أدت هذه الروح الجماعية والنهج التكاملي إلى دفع المشروع في عام 2022 لتصدر المشهد الثقافي بعد أن تم اختياره من قبل لجنة التحكيم للفوز بواحدة من أهم الجوائز المرموقة في المنطقة العربية والمعنية بالتراث الثقافي، ونقصد هنا جائزة ايكروم الشارقة للممارسات الجيدة في حفظ وحماية التراث الثقافي في المنطقة العربية. فضمن احتفالية كبرى استضافتها الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة قبل نحو عامين قامت منال عطايا، المدير العام السابق لهيئة متاحف الشارقة ورئيس لجنة التحكيم لجائزة ايكروم الشارقة للممارسات الجيدة في حفظ وحماية التراث الثقافي في المنطقة العربية بالإعلان عن الفائزين بالدورة الثالثة من الجائزة.
ووفقاً لتقرير لجنة التحكيم المستقلة الذي قدمته عطايا خلال ذلك الحفل، فقد فاز بالجائزة الكبرى مشروع دعم التراث الثقافي في بيروت بفضل تميزه "من خلال نجاحه في حشد المشاركة المجتمعية للأفراد والمؤسسات (بما في ذلك منظمات المجتمع المدني) من أجل إنقاذ نسيج حضري مدمر يضم العديد من المساحات الثقافية (مثل صالات عرض الفنون)، بالإضافة إلى مجموعات في المتاحف والمكتبات التاريخية، والمباني السكنية والتجارب والذكريات الخاصة التي تحملها هذه الفضاءات." وإلى جانب المشروع اللبناني، فاز بالجائزة أيضا مشروع الحفاظ على الموروث التاريخي وتأهيل وترميم الاحواش السكنية والمباني التاريخية في محيط المسجد الأقصى المبارك في البلدة القديمة في القدس، فلسطين.
وحول هذه الجائزة تحدثنا المعمارية شيرين ساحوري، مديرة مشاريع التنمية والتطوير في مركز ايكروم الإقليمي في الشارقة، بمناسبة الإعلان عن تمديد الموعد النهائي لاستلام الترشيحات للجائزة في دورتها الحالية حتى الأول من شهر حزيران (يونيو) القادم، قائلة "انطلقت هذه الجائزة للمرة الأولى في عام 2017 بدعم ورعاية سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة في دولة الامارات العربية المتحدة. وهي تعمل منذ ذلك الحين كمنصة هامة تهدف إلى تكريم المشاريع والأفراد الذين قدموا مساهمات ملحوظة في مجال صون وحماية التراث الثقافي في المنطقة العربية، ودعم التواصل بين الشبكات المخصصة للحفاظ على هذا التراث، وحشد جهود الأفراد والمجتمعات والمنظمات في سبيل الحفاظ على تراثنا الثقافي الغني."
ويؤكد المهندس جان ياسمين على أهمية الجائزة والفوز بها قائلاً "تعد جائزة ايكروم الشارقة إحدى الجوائز المرموقة التي تحتفي بالممارسات الجيدة وتكرم الأعمال المتميزة في مجال الحفاظ على الأصول التاريخية الملموسة وغير الملموسة وإعادة تأهيلها في المنطقة العربية. لقد أكد حصولنا على هذه الجائزة على أهمية السياسة التي اعتمدتها المديرية العامة للآثار في جمع مختلف الجهات الفاعلة في مجال التراث في لبنان حول مشروع الترميم، كما صممته ونفذته المديرية. لقد أعطت الجائزة الفضل لممارسات الحفظ الجيدة في الوقت الذي كان فيه الآخرون يروجون لممارسات غير مناسبة تدمر الأصول التراثية القيمة."
ويضيف المهندس جان قائلاً "إنها مكافأة أخلاقية ومهنية لكل من ساهم في مشروع دعم التراث الثقافي في بيروت، حيث أكدت الجائزة على صحة خارطة الطريق التي اعتمدها المشروع في مثل هذه البيئة المقيدة والمدمرة، المصحوبة بنقص التمويل وضيق الوقت. وقد تمت مشاركة تجربة المشروع في جميع أنحاء العالم كمثال فريد للمجتمع الذي اجتمع بعد أقل من 24 ساعة من أحد أكبر الانفجارات في العالم، مدفوعًا بحب مدينتهم وتراثها."
ويختم المهندس جان ياسمين قائلاً "فتح الفوز بجائزة ايكروم الشارقة الباب أمام مشروع دعم التراث الثقافي في بيروت للمشاركة في المناسبات والفعاليات والأحداث الدولية الهامة الأخرى، ومن بينها جائزة (الأفضل في التراث (التي تنظمها كل من (ICOM, Europa Nostra, Creative Europe). وحصل المشروع على جائزة المشاريع المرموقة ذات التأثير في تلك المسابقة. وقد أتاح الفيلمان الوثائقيان اللذان تم إعدادهما في هذا الإطار رفع وعي العديد من الأشخاص، سواء كانوا خبراء أو مهتمين، في ممارسات الحفظ الجيدة. والأهم من ذلك أنه لدينا اليوم عدد كبير من الأشخاص الذين يدافعون عن الحفاظ على التراث الثقافي بين جيل الشباب."
وتختم المهندسة شيرين ساحوري بدورها بالتأكيد على أهمية المشاركة في النسخة الحالية من جائزة ايكروم الشارقة للممارسات الجيدة، قائلة: "بينما نقترب من الوصول إلى الموعد النهائي لاستلام الترشيحات للدورة الحالية من جائزة ايكروم الشارقة للممارسات الجيدة في حفظ وحماية التراث الثقافي في المنطقة العربية، أود أن أنتهز هذه الفرصة لأدعو جميع المؤسسات والجهات والأفراد العاملين في مجال صون وحماية التراث الثقافي في لبنان وكافة أنحاء الوطن العربي للمسارعة بالمشاركة بالجائزة واستكمال جميع المعلومات والوثائق المطلوبة وارسالها للمركز الإقليمي لمنظمة ايكروم في الشارقة نظراً لأهمية هذه المشاركة، وأهمية الحصول على هذه الجائزة للتعريف بإنجازاتهم ومشاريعهم الاستثنائية في المنطقة".