أنجز الدانماركي لاس نوير عدداً من الفيديو كليبات الموسيقية قبل ان يقدّم عمله الروائي القصير الأول، "فارس الحظّ"، في الدورة المنتهية قبل أيام من مهرجان كليرمون فيران السينمائي. يروي الفيلم بأسلوب يقوم على مواقف عبثية لا تخلو من الدعابة، مسألة الموت والحداد والاحتكاك بجثمان شخص نحبّه وعشنا معه دهراً. الرجل السبعيني كارل، لا يتحمّل على ما يبدو، هذا كلّه. قلبه ضعيف ولا يقوى على مواجهة الحقيقة الكبرى عندما يدخل غرفة الموتى في المستشفى، ليلقي نظرة أخيرة على جثمان زوجته الراقدة هناك. ينكر حقيقة انها ماتت، ويؤجّل لحظة الاعتراف بالواقع من خلال اللقاء بالجثمان. تحدث مفارقات عدة خلال وجود كارل في هذا المكان الحزين. خطأ يضعه في حضور عائلة أخرى جاءت لوداع فرد من أفرادها، لكن اللقاء الأقوى الذي سيغيّر مجرى الأمور هو عندما يلتقي بتوبرن، الرجل الغامض الذي لا يفارق المكان، بعدما تعذّر عليه ايجاد جثمان زوجته التي توفيت قبل فترة.
هذا فيلم عن الفقد والألم والحداد يعالجه المخرج الثلاثيني بالكثير من الجرأة. يقول نوير: "الدعابة جزء مني وهي جزء من الألم موضوع الفيلم. أحياناً عندما يحزن الناس، يصبح حزنهم أقرب إلى الضحك، وهذا نوع من آلية دفاع. وددتُ ان أضع ذلك في الفيلم. كما أنني أردتُ ان أُري ان الناس عندما يتألمون يتصرفون أحياناً بطريقة غريبة، خصوصاً اذا نظرتَ اليهم "من الخارج". يجب احترام ذلك. كلّ منّا يتصرف بطريقة مختلفة عن الآخر. كارل مثلاً، يفضّل إصلاح اللمبة بدلاً من ان يلقي نظرة على زوجته. أو ان يساعد توبرن ليتجاوز محنته. لا نضحك في الفيلم على نكات، بل على المواقف وعلى الشخصيات التي تقوم بأشياء طريفة".
يقول لاس نوير ان الفيلم عن العزلة في المجتمع الغربي. فزوجة كارل كانت الشخص الوحيد في حياته والخسارة كبيرة ولا يعرف ماذا يفعل وكيف يتصرّف. في المجتمع الدانماركي، تتعامل النساء مع الفقد على نحو أفضل من تعامل الرجال معه. يلجأن إلى الآخرين ويتواصلن معهم، بينما ينطوي الرجال على ذواتهم. يقول: "عندما ينظر إلى جثّة زوجته، يتفاقم عنده الاحساس بالوحدة. وقد يكون مصدر الوحدة هذا مرحلة الوباء التي عشناها بمفردنا في منازلنا. قد يكون ثمّة رابط بين الفيلم والجائحة”.
يعترف نوير انه لطالما شعر بالخوف من ان ينتهي وحيداً في الحياة. وهذا ما يشعر به أي إنسان عندما يخسر حبيباً أو رفيق درب. هذا خوف متجذّر في داخله. يوافقني فوراً عندما أخبره انه ربما لهذا السبب ينجز الأفلام. "انها وسيلة للتعبير عن الذات وعن المخاوف وعن الهواجس، وتفيد أيضاً للتواصل مع الآخر. هناك شيء يجمع كلّ البشر، وهذا ما هو جميل في صناعة الأفلام. لكني، في الحقيقة، قلتُ في نفسي وأنا أنجزه لعلّ هناك أشخاصاً آخرين شعروا بألم أفظع مني. مَن أنا لأروي قصّة كهذه؟ فأنا في ثلاثيناتي فقط. كان يجدر بي ان أكون في السبعين كي أروي هذا. لذلك، شعرتُ بالذنب وأنا أعمل على الفيلم. طبعاً، أجريتُ العديد من الأبحاث وقد ساعدتني خسارة جدّتي لأفهم الموت من خلال مراقبتي لتصرفات جدّي. ألهمني الأخير كثيراً".
في كليرمون، الحصّة التي عُرض ضمنها الفيلم كانت جدّ سوداوية. يضحك نوير وهو يتذكّر ذلك، ثم يقول انه من الجيد ان فيلمه تسبّب ببعض الضحك. هذه المرة الأولى يشارك فيها في كليرمون وقد ترك فيه الجمهور انطباعاً مهماً. يقارن الحدث الفرنسي مع نشاطات أُجريت سابقاً في الدانمارك حول الفيلم القصير، ويؤكّد ان لا مقارنة في جحم التفاعل بين الجمهورين.
أعلم من خلال الحوار انه لم ينجز الفيلم بالكثير من المال، لكن يبدو الإنتاج ضخماً، وهو سعى إلى اعطاء هذا الانطباع. سبق ان موّل أحد مشاريعه السابقة من جيبه الخاص، لكن هذه المرة جاء بتمويل. معظم الكلفة ذهبت إلى الممثّلين وأفاد من علاقاته لاشغال ناس مقابل القليل من المال، وهم ناس كانوا أحبّوا المشروع. يقول انه كان مهماً له ان يحبّ الممثّلون السيناريو.
خلال الكتابة، خسر أشخاصاً أعزاء على قلبه، ممّا اضطره ان يذهب إلى المشرحة مرات عدة، ويقول انه كان "مكاناً بارداً بجدران بيضاء". الناس من أفراد عائلة وأصدقاء كانوا يعطون المكان بعض الدفء ويساند بعضهم بعضاً. فراح يتساءل: ماذا لو لم يكن لشخص ما كلّ هؤلاء الناس من حوله؟ ماذا كان حلّ به؟ هكذا وُلدت فكرة الفيلم.
بالنسبة إلى شخصية توبرن، قد يتساءل المُشاهد ما اذا كانت موجودة فعلًا أم انها شبحٌ يحوم في أرجاء المستشفى. يقول لاس: "هذا متروك للتأويلات. كنتُ أريد هذا النوع من الشرح للشخصية. فتوبرن قد يكون الجانب الآخر لكارل".
رأيتُ في الفيلم ما لم يره ربما كثر في أوروبا: تلك العلاقة بين الجسد والحداد. لا يمكن للحداد ان يتم في غياب الجسد. 9000 فُقدوا أو خُطفوا خلال الحرب الأهلية اللبنانية، ذهبوا ولم يعودوا وبقي ذووهم في حال من الأسى لا عزاء له. "كيف يُمكننا ان نعيش بسلام مع الماضي ونحن لا نعلم ماذا حلّ بهم؟"، يعلّق لاس متفهّماً تماماً ما أرويه له. فهذا من أجمل الأشياء في السينما: مشاهدون مختلفون يقرأون أحداث الفيلم بناءً على ثقافتهم وخلفيتهم الاجتماعية، وأيضاً تاريخهم.