مسلسل يستحق المشاهدة يندرج ضمن خانة أعمال الجريمة والدراما القانونية والمحاكمات، تم عرض الموسم الأول منه والمعنون بـ "American crime story: The people vs O.J Simpson" لأول مرة على شاشة التلفزيون الأمريكي سنة 2016، وهو يقع في عشر حلقات، من إنتاج سكوت ألكسندر ولاري كارازيسكي، وبمشاركة نخبة من الممثلين المميزين على غرار كوبا غودينغ جونيور وسارة بولسون وكورتني بي فانس وجون ترافولتا.
وفيما يتعلق بأحداث المسلسل دون حرق لنهايته وتفاصيل حبكته المشوقة، فقد جرى تخصيص موسمه الأول المقتبس من وقائع حقيقية لعرض قصة إحدى أكثر الجرائم شهرة وإثارة لاهتمام الجمهور في التاريخ الأمريكي الحديث، ويتعلق الأمر بالقضية التي اتُهم من خلالها لاعب كرة القدم الأمريكية الشهير أو جيه سيمبسون من أصل إفريقي بقتل زوجته السابقة وعشيقها بشكل وحشي في مدينة لوس أنجلوس الأمريكية سنة 1994.
يعرض هذا المسلسل المثير للكيفية التي تحولت بها تلك الجريمة البشعة لقضية رأي عام وحظيت باهتمام غير مسبوق لدى وسائل الإعلام الأمريكية على اختلاف أنواعها ومشاربها، بحيث آثرت العديد من المحطات التلفزيونية تعليق برمجتها وجدول بثها الاعتيادي لضمان تغطية خاصة متواصلة لفصول وتفاعلات القضية بغية الرفع من نسب المشاهدة لديها في ضوء الزخم الكبير الذي اكتسبته تلك القضية في أوساط الجمهور الأمريكي، بالنظر لمقدار الشعبية والجماهيرية التي يحظى بها النجم الرياضي وبشاعة الفعل الإجرامي.
وتعد فصول المحاكمة المثيرة للمتهم والتي جرى بثها مباشرة على شاشات التلفاز أكثر الجوانب تشويقاً في هذا المسلسل الدرامي، إذ ينقلنا لنعيش فصول المواجهة بين الادعاء العام الساعي إلى إثبات تورط المتهم بالاستناد إلى الأدلة التي جُمعت من مسرح الجريمة من جهة، وفريق الدفاع عن المتهم المكون من عدد كبير من المحامين ذوي الخلفيات والتوجهات المتباينة، مما يفضي في بعض الأحيان إلى تفجر الخلافات بين أصحاب الاتجاه الواقعي والعملي الذي تجسده شخصية المحامي بوب شوبيرو (أدى دوره الممثل جون ترافولتا) وأصحاب الاتجاه العقائدي المثالي الذي عكسته شخصية جوني كوكران محامي الحقوق المدنية من جهة ثانية.
ويمكن اعتبار نقطة التحول في فصول القصة الكشف عن الماضي العنصري تجاه الأمريكيين من أصل أفريقي لأحد عناصر الشرطة الذين شاركوا في تجميع الأدلة من مسرح الجريمة، وهو ما حمل فريق الدفاع عن المتهم على صياغة استراتيجيته التواصلية على أساس الزعم بوجود اضطهاد عرقي تُسنده مجموعة من الوقائع السابقة حول تحامل وتواطؤ الشرطة ضد ذوي البشرة السوداء، هذا في مقابل تمسك الادعاء العام بوجاهة الأدلة التي جرى عرضها في المحاكمة، مما يعيد إلى الأذهان أحداث الشغب والمواجهات العنيفة التي اندلعت بمدينة لوس أنجلوس سنة 1992 على خلفية الحكم بتبرئة ضباط شرطة اتُهموا باستخدام العنف المفرط ضد مواطن أمريكي من أصل إفريقي.
الآن لندع جانباً تفاصيل القصة الواقعية، ولننصرف إلى إبراز العبر والدروس التي يفيض بها هذا المسلسل فيما يتعلق بحدود العدالة ونسبيتها، فما أسهل الإطناب في الحديث عن العدالة كمفهوم نظري مجرد، بحيث أكب الفلاسفة والمفكرين منذ القدم على التنظير لمفهوم العدالة كما يُفترض أن تكون عليه من الناحية المعيارية، إلا أن الخروج من قوقعة التنظير الفلسفي إلى حيز الممارسة العملية يُظهر لنا مقدار العوائق والمثبطات التي يصطدم بها تطبيق العدالة التي يُفترض في تطبيقها التحلي بالموضوعية والتجرد من الأهواء والأفكار المسبقة.
إن ما سبق عرضه عن حدود وصعوبات العدالة ليس حكرا على النظم التسلطية التي تنعدم فيها ضمانات فعلية للفصل بين السلط الثلاث واستقلالية السلطة القضائية، بل يشمل أيضا بعض الدول المصنفة في خانة الديمقراطيات المتقدمة، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول التي يرتكز نظامها القضائي على هيئة المحلفين والتي تضم أشخاصا يُختارون من عامة الناس وليس لهم في الغالب أي تكوين قانوني للبت في بعض القضايا وتقرير ما إذا كان المتهم مذنباً أو لا.
وتأسيساً على ذلك، يضع مثل ذلك النظام في كثير من الأحيان مصداقية القرارات والأحكام القضائية على المحك لكونها تظل عرضة للتأثر بالانطباعات الأولية وضغوط الرأي العام والمواكبة الإعلامية المستمرة لاسيما في القضايا الساخنة والملتهبة، مما يجعل أحيانا الادعاء العام وفريق الدفاع على السواء يركزون جهدهم على استمالة مشاعر وعواطف هيئة المحلفين بدل مقارعة الأدلة والبراهين العلمية. ومن هنا نخلص إلى أنه يندر العثور على نظام قضائي خالص من العيوب والشوائب حتى في قلب أعرق الديمقراطيات لجملة من الاعتبارات الذاتية والموضوعية، مما يحيلنا إلى خبايا وأسرار الطبيعة البشرية التي لا زلنا في حاجة ماسة لسبر أغوارها المظلمة.