النهار

"تاريخ العالم وفقاً لصور غيتي": ريتشارد ميسيك يدفع الفدية ويحرّر ذاكرتنا!
هوفيك حبشيان
المصدر: "النهار"
"تاريخ العالم وفقاً لصور غيتي": ريتشارد ميسيك يدفع الفدية ويحرّر ذاكرتنا!
"تاريخ العالم وفقاً لصور غيتي" لريتشارد ميسيك.
A+   A-
ترامواي يعبر سان فرنسيسكو وإلى جانبيه أشخاص يجتازون الشارع في مشاهد حيويّة بالأسود والأبيض تعود إلى مطلع القرن الماضي مجسدةً ما كانت عليه الحياة اليومية في تلك الحقبة. بهذه اللقطات الـ“لومييرية” (نسبةً إلى الأخوين لوميير مخترعي السينماتوغراف)، التي صوّرها الأخوان مايلز الأميركيان في العام 1906، فقط أربعة أيام قبل الزلزال الضخم الذي ضرب المدينة، يفتتح "تاريخ العالم وفقاً لصور غيتي" لريتشارد ميسيك المُشارك في مسابقة الدورة الحالية من مهرجان كليرمون فيران السينمائي (27 كانون الثاني - 4 شباط) الذي يشهر أسئلة مهمة عن دمقرطة المعلومات والمواد الأرشيفية وكيفية الوصول اليهما في زمننا الحالي.

اللّافت في هذه اللقطات الأولى انها مطبوعة بعلامة مائية تحمل اسم "غيتي"، فنفهم مباشرة انها مقصودة. فـ"غيتي"، أكبر موقع للمواد الصورية الأرشيفية في العالم (تأسس في العام 1995)، يملك حقوق تلك اللقطات. وهكذا طوال 18 دقيقة، سيناقش الفيلم من خلال لقطات أرشيف مصدرها كاتالوغ "غيتي" وغيرها من الصور التي يمكن استخدامها مقابل مبلغ من المال، مسألة الملكية الفكرية الشائكة. الا ان الصادم في الفيلم هو ان المخرج، بعد شراء كلّ هذه اللقطات من الجهات التي تملك حقوقها، وضع فيلمه على صفحة "ويب" كي يتسنّى للجميع تحميله مجاناً. من خلال اعتراض سلمي وخطوة رمزية ضد تسليع الذاكرة الجماعية، اراد المخرج تسجيل موقف جريء، مستغلاً ثغرة قانونية تجيز له شراء مقاطع مرخصّ لها قانوناً من "غيتي"، ثم نشرها للعموم، محرراً إياها من سيطرة الشركة وهيمنتها وجعلها متاحة للمُشاهدة والاستخدام.

جنود يهاجمون العدو خلال الحرب العالمية الأولى؛ هتلر يزور باريس؛ تشي غيفارا يخطب؛ الشرطة تحاول حماية بول ماكارتني من الحشود… هذه بعض الصور التي تجمع المآسي بالغبطة، حيث المطالبة بالحقوق المدنية تختلط بالمجاعات والابتكارات وغزو الإنسان للفضاء. مانديلا وجدار برلين وآبار النفط المشتعلة وصولاً إلى صور 11 أيلول التي لا تزال حيّة في ذاكرة جيلنا… انفجارات وتظاهرات ومراكب لاجئين ترسو على الشاطئ وكتل الجليد التي تذوب في المحيط… هذا كله يتماهى ويصبح واحداً من خلال المونتاج الإيقاعي. وكلما اقتربت الصور واللقطات والمشاهد من زمننا الراهن، فقدت شاعريتها، لتصبح مجرد أخبار وتوثيق، في حين مثيلاتها التي تعود إلى عقود مضت، دخلت المعبد وارتفعت إلى مصاف أعلى وكأننا نشاهد عالماً غير موجود سوى داخل ألبوم الصور.

منذ اختراعها، شهدت الكاميرا للقرن العشرين الذي صنع عالمنا الحديث. هي الشاهد الأهم على كلّ ما مرت به البشرية. ومن المعروف ان مَن يملك الصورة يملك السطلة. عبر هذه الصور، نقوم بجولة سريعة تختزل ببضع دقائق قرناً من الأحداث المتلاحقة، لكن الهدف من عرضها ليس جمالياً أو شاعرياً أو سياسياً. الغاية منها التفكير في مسألة ملكية الأرشيف الذي هو في المقام الأول سلعة تتغير ملكيتها مع الزمن. بعد الافتتاحية التي يمهد فيها لخطابه، ينشر المخرج حقيقة يجهلها كثر، وهي ان كلفة استخدام لقطات الافتتاحية تتراوح بين 41 ألفاً و160 ألف دولار. ويتوقف السعر على الاستخدام.

يسعى الفيلم إلى قراءة تاريخ هذه اللقطات من زاوية مختلفة. لا يتفحّص ماذا تتضمن بل كيف التُقِطت وضمن أي ظروف وماذا حلّ بها بعد التقاطها. بالنسبة الى ميسيك هذه معلومات أساسية لا بد منها. فالعديد من الصور التي وثّقت القرن العشرين، من هبوط أبولو على سطح القمر إلى تحطّم المنطاد الألماني هيندنبورغ، تعود ملكيتها إلى "غيتي" بالرغم من انها ملك البشرية وملك ذاكرتها الجمعية. كلنا نعرف بوجودها وهي تعيش في داخلنا، الا اننا لا يمكننا في معظم الحالات الوصول اليها والتصرف بها لأنها رهينة. ورغم ان الكثير من هذه الصور، باتت ملكية عامة بحكم مرور الزمن، تمنع "غيتي" الناس من الوصول اليها.

يثير الفيلم اشكاليات تستحق التوقف عندها؛ فنكتشف مثلاً ان دخول الصور واللقطات حيز الملكية العامة لا يمنع مَن يملك نسخة عنها ان يعرضها للبيع وهذا ما تفعله "غيتي". من هنا يُطرح السؤال الآتي: كيف يمكن لمواد أصبحت ملكية عامة ألا تكون متاحة للجميع بل لمَن يضع يده على محفظته؟ فمصطلح "ملك مُشاع" نفسه يعني ان المواد لا يملكها أحد، الا ان لا قانون يفيد بأن على المواد تلك ان تكون متاحة مجاناً. هكذا، فإن آلاف الصور التي انتهت في أرشيف شركات مثل "غيتي" تُباع بالرغم من انه غير معروف حتى مَن التقطها، مثل صورة جوية لتشرنوبيل في العام 1986، وهي مجهولة المصدر. حتى لقطات احدى التجارب النووية في أميركا التي من المفترض ان تكون ملكية عامة أصبحت تُباع بمقابل مادي. يستغرب الفيلم ان صوراً التُقِطت لمواطنين صينيين يسبحون خلال الثورة الثقافية أضحت مادة للبيع والشراء، رغم انها التُقِطت في زمان ومكان كانت الملكية الخاصة غائبة فيهما.

أخيراً، يظهر الفيلم مدى توظيف الصور في بسط نفوذ أميركا على العالم. يخرج ميسيك باستنتاج مفاده ان الصورة هي تعبير عن السلطة، سلطة يمارسها الرجل على المرأة والغني على الفقير والمستعمِر على المستعمَر. صور الأرشيف تنطوي على الكثير من الظلم والهيمنة، لذا قرر ميسيك إنجاز هذا العمل، لا فقط كي يعرض الماضي، بل ليحرره من قيوده. يدفع الفدية التي تطلبها الشركات مقابل الذاكرة، ليعطيها الحرية.

اقرأ في النهار Premium