النهار

عنصرية أبوية فساد… أهلاً بكم في سودان "وداعاً جوليا"
هوفيك حبشيان
المصدر: "النهار"
عنصرية أبوية فساد… أهلاً بكم في سودان "وداعاً جوليا"
“وداعاً جوليا” لمحمد كردفاني.
A+   A-
حضرت السينما السودانية للمرة الأولى هذا العام في مهرجان كانّ السينمائي (16 - 27 أيار) بفيلم "وداعاً جوليا" للمخرج محمد كردفاني، الذي عُرض ضمن "نظرة ما". نال الفيلم، حتى قبل عرضه، من جانب المتحمّسين للأفلام الآتية من دول "محرومة" سينمائياً، تشجيعاً كبيراً (تحوّل إلى تصفيق بعيد اكتشاف تفاصيله)، ومن المرجح ان يلفت الانتباه في جولاته الدولية طوال الأشهر المقبلة، خصوصاً في ضوء ما شهدته السودان أخيراً من تطورات سياسية وأمنية جعلتها تتصدّر مجدداً نشرات الأخبار، ولا شك انها ستلقي ظلاله عليها.
 

"وداعاً جوليا" باكورة الأفلام الروائية الطويلة لمهندس طيران سوداني من الخرطوم اسمه محمد كردفاني حمله شغفه بالفنّ السابع إلى التخلّي عن اختصاصه وتأسيس شركة إنتاج ساهمت في تمويل هذا الفيلم. لم يخفِ كردفاني، يوم العرض الأول في كانّ، وجهة نظره السياسية ولم يحاول تدوير الزوايا بل فتح النار على الجميع، من عسكر وإسلاميين وميليشيات يحاولون السطو على بلاده. "النصر للشعب”، في نظر كردفاني الذي قدّم فيلماً حيث الطرح الإنساني يغلب على سواه من الطروحات، وهذا لا يعني ان لا بُعد سياسياً في الفيلم، بل المقصود ان الإنسان السوداني هو في قلب هاجسه، بغض النظر عن انتمائه ودينه ومعسكره.
 
 منى المسلمة داخل كنيسة.
 
محور الفيلم منى (إيمان يوسف)، مغنية حرمها زوجها أكرم (نزار جمعة)، من الغناء لأسباب أبوية سلطوية لا تُخفى على أحد. تنطلق أحداث الفيلم بالتزامن مع الاتفاق الذي أنهى الحرب الأهلية السودانية الثانية في العام 2005. لكن حادثة اصطدام ستكون البداية لسلسلة مشاكل وأزمات، على خلفية لحظة سياسية واجتماعية متوترة تطل برأسها. الحادثة ستشكّل مدخلاً لتوثيق الواقع السوداني وتعقيداته الكثيرة التي لا يوجد فيلم يستطيع اختزالها.
 
 
"يضطر" أكرم إلى قتل رجل سوادني جنوبي كان يلاحق منى بالسيارة. لم تقل منى لزوجها سبب ملاحقته لها، لم تخبره بأنها كانت صدمت طفله بالسيارة بسبب قلّة تركيزها على القيادة، ثم لاذت بالفرار تاركة إياه على الأرض. أخفت هذا كله لنفسها، لكن النتيجة كانت انها ستغرق في احساس عارم بالذنب وسيتأكلها الندم على ما تسبّبت به. يعتقد الزوج أنه قتل دفاعاً عن الذات، كون الرجل كان يطارد زوجته، وبالتالي لا يشعر بأي ندم، لكنه لا يعلم لماذا كان يطاردها، وتقرر منى ان تتكتّم على الحقيقة. للتكفير عن ذنوبها، تبحث منى عن عائلة الرجل المغدور، وتسعى إلى مساعدة أرملته وابنها. وهذا يقحم الأحداث في تعقيدات أخرى، ذلك ان ما تأسس على الكذب لا يمكن الا ان يولّد المزيد من الكذب. ولا بد للحقيقة ان تظهر مهما طال الزمن.
 
رغم ما يبدو عليها من حسن سلوك وأخلاق ورأفة، تحاول منى ان تريح ضميرها كامرأة ثرية تعتقد انها تستطيع شراء كلّ شيء بحفنة من الفلوس. هذه حقيقة لا يمكن التغاضي عنها. تضامنها مع الضحية، الهدف منه التوبة وشراء الذات. منذ متى كانت تهتم بهذه الطبقة من الناس؟ المشهد الذي يحرص زوجها فيه على تذكيرها ببعض الحقائق عن كونها لا تختلف في شيء عن المجتمع الذي تتحدّر منه، يعيد موضوعة الشخصيات إلى مكانها الصحيح. وهي شخصيات مكتوبة بهدوء، حيث ان لكلّ منها حسناتها وعيوبها والأسباب التي تجعلها تتصرف على هذا النحو، بتأثير مباشر وغير مباشر ممّا يحيط بها من ظروف.

جوليا التي تضطلع بدورها الجميلة سيران رياك. 
 
تفجّر الحادثة المكبوتات وتفتح نقاشاً وصراعات على أنواعها، بعضها لا يتعمّق فيه المخرج، ربما لقلّة المساحة. الحادثة هي نقطة الماء التي تجعل الكيل يطفح. الحكاية كلها تغدو حجّة للحديث عن انفصال الجنوب عن الشمال وما تركه من أثر في وجدان جيل كردفاني. هناك القليل من كلّ شيء: عنصرية، طبقية، استغلال، فساد، أبوية. يضع كردفاني هذا كله على الطاولة. يتناول المسائل واحدة واحدة، ينظر اليها ثم يعيدها إلى مكانها. هذا للقول انه يعالجها بهدوء وعقلانية. لا انفعالات تُخرج الفيلم من مساره. يبتعد النصّ الفيلمي عن الكاريكاتورية والتنميط بقدر المستطاع، رغم صعوبة هذا الأمر في "فيلم أول" حيث ثمة اغراء لحشد كلّ شيء معاً دفعة واحدة. هذا الحشد يشكّل مطباً لدى الكثير من المخرجين الذين يخطون أولى خطواتهم داخل السينما الروائية الطويلة. لكن بحنكة معينة، يتجاوز الفيلم هذا كله، ليقدّم مقاربة منصفة لا تظلم أحداً، وتحاول فهم الجميع، من دون ان تبرر أفعالهم بالضرورة.
 

أنجز كردفاني فيلماً واضحاً عن التعايش والتسامح من دون مبالغات، مركّزاً في جزء أول على ما يفصل الناس بعضهم عن بعض، لا عمّا يجمعهم، لكن، ما ان يشارف الفيلم نهايته، حتى يصبح الهم هو ما يجمعهم، وهنا الرسالة الأقوى والأسمى.

اقرأ في النهار Premium