أحد أبرز شروط إقامة مهرجان سينمائي دولي في زمننا الحالي هو عرض الأفلام بلا رقابة، بلا قص ولصق، بلا شرطة دينية وسياسية تطلق الصفير في وجه الفنّ. اعتدنا ان نستعير من الآخرين ما يناسبنا، لكن هذا المنهج أصبح يتصادم مع مشاريع ثقافية ذات رؤية وطموح دوليين. لا يمكن تنظيم تظاهرة سينمائية محترمة وسيف الرقابة مصلّت على رقاب الأفلام، يمنع ويجيز، بلا أي اعتبار لحرية الفكر والتعبير. فالعالم اليوم مختلف عمّا كان عليه قبل 20 أو 30 سنة، كلّ شيء متوافر عبر المنصّات والتحميل والقرصنة. ثم ان وصول المعلومات إلى كلّ الناس بالتساوي، جعل الرقابة فكرة مضحكة، فهي باتت رمزية أكثر منها واقعية، ومَن يستخدمها يعلم ذلك جيداً، ويستخدمها فقط لبسط سلطته لا أكثر.
بقدر ما يبدو الموضوع بسيطاً وسهلاً، هو في الواقع معقّد، عندما تتعلّق المسألة بالسعودية ومهرجانها الوليد، "البحر الأحمر السينمائي" (1 - 10 الجاري) اللذين يتربص بهما كثيرون من أخصامهما السياسيين والإيديولوجيين. المسألة معقّدة، لأنها تتعلّق بثلاث جهات: الدولة التي ترعى المهرجان والأشخاص الذين ينظمونه والجمهور الذي يتابعه. الجهة الأولى لا تعنيني والجهة الثانية يمكن نقد خياراتها وأسلوب عملها، أما الجهة الثالثة فأنا وهي في معسكر واحد. من هذا المنطلق، لا يمكن اصدار حكم إعدام على المهرجان بجملة أو جملتين، فالحدث الذي أطلقه بلد "يحاول تلميع صورته غير السليمة في ملف حقوق الإنسان"، كما يقول بعض الموظفين في جمعيات غير حكومية، هو أيضاً حدث يفيد جمهوراً من المهتمين بالفنّ السابع، وهذا من صلب مشروع الانفتاح والتبادل والحوار.
لوكا غوادانينو خلال جلسته الحوارية في جدة.
التصنيفات على باب صالات "فوكس" حيث يجري معظم عروض المهرجان واضحة: هناك أفلام لكلّ فئة عمرية. لكن، هل هناك "صفر رقابة" كما يدّعي المنظّمون؟ وهل هذا ممكن في بلد تاريخ الصالات فيها يعود إلى خمس سنوات، وحيث اقامة مهرجان سينمائي كانت علم خيال في يوم من الأيام؟ ثم، عملياً، كيف يمكن تجريم بعض الممارسات الجنسية (المثلية) في الواقع، والتغني بها على الشاشة؟ معرفة الجواب مسألة شائكة تتطلب مشاهدة كلّ الأفلام، وحتى هذا لا يكفي، لأنه علينا حينئذ ان نكون قد شاهدناها في نسخها الأصلية ثم مقارنتها مع النسخ المعروضة هنا.
يقول المنظّمون انهم كانوا أحراراً في اختيار ما أرادوه من أفلام، وذلك "بناءً على قيمتها الفنية"، لكن لا نعلم إلى أي مدى لجأوا إلى الرقابة الذاتية خلال تشكيل البرنامج، وهذه أيضاً واحدة من المعضلات التي يواجهها القائمون على المهرجانات العربية. قبل بضع سنوات، حينما كنت خارجاً من فيلم "حياة أديل" في كانّ، التقيتُ المدير الفني لمهرجان عربي، فضحكنا ونحن نمازح أحدنا الآخر بأنه يليق لافتتاح الدورة المقبلة من مهرجانه. كان الرجل أُعجِب بالفيلم، لكن يدرك جيداً استحالة عرضه. مشكلة أخرى لا بد من الإشارة اليها: الكيل بمكيالين وتطبيق معايير مختلفة. هناك معيار للسينما الغربية وآخر للسينما العربية. ما يجوز في الأولى (قد) لا يجوز في الثانية، لأنه، ببساطة، لا يمكن ان نعتبر ممارسات كالمثلية على انها "عادية" في العالم العربي، بينما يختلف النظر اليها "من مسافة". "صديقة" لي على "فايسبوك" أشارت على صفحتها إلى ان المخرج الإيطالي لوكا غوادانينو من ضيوف المهرجان الكرام، وقد أدلى بدرس سينمائي حيث تناول تجربته بالرغم من انه مثليّ الجنس، وهو صاحب واحد من الأفلام ("نادني باسمك" - 2017) الذي اعتبره كثر من الأفلام التي تروج للمثلية (لم يُعرض تجارياً في أي بلد عربي - على حد علمي). ملاحظة "الصديقة" في محلها، مع العلم ان جديد غوادانينو، "العظام وكلّ شيء” الذي يتضمن بعض المشاهد "الجريئة"، عُرض في المهرجان كاملاً. للأسف، لم يكن هذا مصير الفيلم المغربي "المحكور ما كي بكيش" لفيصل بوليفة، فتم حذف عدد من المشاهد التي تتضمن مثلية بين شاب مغربي ورجل فرنسي، على نحو أضر بالقصة وأحدث خللاً في السرد. أهلاً بالإزدواجية!
"المحكور ما كي بكيش" لفيصل بوليفة المعروض في المهرجان.
في المقابل، تقييم الغرب لأي حدث من منظور المثلية الجنسية بدأ يصبح محل تململ منذ كأس العالم في قطر. احترام الاختلاف أمر لا بد منه، ولكن لا بد أيضاً من توسيع دائرة النظر إلى الأشياء، خصوصاً ان التغيير لا يحدث بين ليلة وضحاها. وبعض الناشطين والصحافيين الجالسين خلف مكاتبهم في دولهم البعيدة، يتوقّعون من شعب لا يزال فيه مَن يعتبر السينما حراماً، ان يلجأ إلى مرجعية غير الدين لاعتماد معايير التقبّل.
حصر (أو محاصرة) المهرجان في دائرة من المهتمين (رغم انه مفتوح للجمهور) الذين يتحدرون من طبقة اجتماعية وثقافية معينة، يحول دون حدوث بلبلة أو جدال. مهرجان القاهرة، بناءً على اشارة من السلطات المصرية، جعل عروض الأفلام التي تراها الأخيرة "اشكالية" حكراً على حاملي البادجات والصحافيين، ولكن في جدة لا توجد هذه المشكلة من الأساس، فالجمهور العادي قليل والكثير من العروض فارغة (شاهدتُ فيلماً برفقة شخص واحد)، أو يملأها بعض الضيوف من أوروبا. ثمة غربلة حاصلة من تلقاء نفسها، من دون استخدام قوة. نتيجة ذلك، مر الفيلم المغربي "أزرق القفطان" لمريم التوزاني بلا أي مشكلة، واقتصرت عناوين الصحافة العربية (التي لا تفعل في مجمل الأحوال سوى نسخ ما يصدر من بيانات من المكتب الإعلامي)، على الآتي: “عرض فيلم مثلي في مهرجان البحر الأحمر!". فيلم التوزاني الذي تجري أحداثه في مدينة سلا المغربية يفجّر المكبوتات ويصوّر حكاية بعيداً من القيود الأخلاقية الكثيرة التي تمنع السينما العربية من تناول المحرمات الاجتماعية. سنكتشف على سبيل المثل، ما قد يصدم البعض، وهو مثلية الزوج (صالح بكري) وارتياده الحمام لاشباع غرائزه الجنسية، ثم الإنجذاب الذي سينشأ بينه وبين يوسف (أيوب ميسيوي) الذي يعمل لديه. هناك أيضاً فيلم فرنسي معروض في المهرجان تحت عنوان "جلد ناعم"، إخراج يائيل لانغمان وجيريمي منغي، وهو عن طالب يشعر بأنه لا ينتمي إلى أي من الجنسين التقليديين، فيحاول البحث عن ذاته وايجاد الهوية التي تناسبه.
"أزرق القفطان" لمريم التوزاني، فيلم يفجّر المكبوتات الاجتماعية.