الأميركي أبيل فيرارا، المقيم في روما منذ سنوات، تجاوز السبعين بعام واحد، ولم يكن يوماً بهذا النشاط الذي هو عليه في هذه الأيام. في السنتين الأخيرتين، صوّر ما لا يقل عن أربعة أفلام، عُرض أحدثها، "الأب بيوس"، في مهرجان البندقية الأخير ضمن فقرة "أيام المخرجين"، وهي خانة لا تنتقي عادةً أفلاماً لسينمائيين مكرّسين من مثل مستواه. لكن، يبدو ان فيرارا لا يهتم أين يُعرض عمله، ما دام يُعرَض ويصل إلى الجمهور. العنوان لا يخفي شيئاً: الفيلم عن حياة القديس بيوس (1887 - 1968) الذي يحظى بمكانة خاصة عند المؤمنين الإيطاليين وفي وجدانهم الديني. بيوس أيقونة كاثوليكية لا تقل أهمية عن المسيح عند البعض. مقاربة فيرارا له، وهو عاشق لبازوليني، لن تنال رضا الجميع وقبولهم. وهذا تحصيل حاصل في سجلّ مخرج اختار طرقاً ملتوية لصناعة سينما، متجوّلاً بين الأنواع والمدارس والأشياء العصيّة على التصنيف، الأمر الذي لا يسهّل مهمّة الناقد. أضف إلى ان فيرارا، كأي فنّان جذوره في إيطاليا، مهمومٌ بالإيمان ولا يتوانى عن اللعب به، وله في هذا تجربة سينمائية فريدة هي "مريم" (2005).
أبيل فيرارا مع شيا لابوف أثناء تصوير الفيلم.
"الأب بيوس" غريب إلى أقصى بُعد، يتجاوز غرابة فيلمه "سيبيريا" الذي كان عُرِض في برلين عام 2020، لكن النتيجة أفضل بمراحل. تبدأ الأحداث مع نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما يباشر الجنود الإيطاليون العودة إلى ديارهم سالكين طريق سان جيوفاني روتوندو، أرض الفقراء، التي تملك، تاريخياً، رصيداً كبيراً من العنف والخضوع لسلطة الكنيسة الحاكمة بقبضة حديد بالتعاون مع النافذين التابعين لها من أصحاب الأراضي الأثرياء. بعض الجنود يتم استقبالهم بالدموع، وبعضهم الآخر، الأقل حظاً، يتحوّلون إلى مجرد رسائل في أيدي الأهالي تعلن استشهادهم على أرض المعركة. رغم النصر، اليأس على أشده والمعنويات محطمة. يتزامن هذا مع قدوم الأب بيوس (شيا لابوف) إلى دير الكبوشيين حيث سيضع نفسه في خدمة الله. الرجل محوط بهالة من الكاريزما والقداسة والرؤى الملحمية ليسوع ومريم والشيطان. يحدث هذا عشية أول انتخابات حرة في إيطاليا التي ستمهّد الطريق لمجزرة ستغير مجرى التاريخ الإيطالي.
هل يمكن للرب ان يكون جواباً على العنف والظلم؟
مع فيرارا، الذي تأرجح دائماً بين الإيمان وعدمه متلاعباً بخيوطه، لم نتوقّع فيلماً أكاديمياً أو بورتريهاً باهتاً لشخصية تنتمي إلى عالم الإيمان. وهذا ما حصل فعلاً. في العادة، أفضل مَن أنجز أفلاماً عن الدين هم مَن كانت عندهم شكوك لا أصحاب اليقين المطلق. يقول فيرارا موضّحاً مقاربته: "هذا ليس فيلماً عن المعجزات، إنما عن رجل ولد تحت اسم فرانتشيسكو فورجيوني في بييترلتشينا، وهي قرية زراعية خارج نابولي. منذ الطفولة، بدا صاحب رؤيا. كان شاباً مضطرباً يطرح تساؤلات، يكافح ليجد دعوته الحقيقية ومكانه في نظر ربّه. عند وصوله إلى سان جيوفاني روتوندو، في جبال غارغانو، اكتشف منطقة مهجورة تعيش تحت خط الفقر والأمراض والاضطرابات السياسية. وجد دعوته الحقيقية في خدمة الفقراء، بعد الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الأولى. تمسّك بالحبّ والتضامن والأسرار المقدّسة وطقوس الاعتراف والقداديس، علّها تساعده في مواجهة القوى الشيطانية في خريف عام 1920".
من مشاهد العنف في فيلم فيرارا.
الفيلم مشهدي وتجريبي و"نضالي" في آن واحد. يجد فيرارا أرضاً خصبة يزرع فيها أفكاره: الثورة الشعبية التي قامت ضد أصحاب الأراضي الأثرياء الذين لم يترددوا بدورهم في التصدي لها فقمعوا تلك الاحتجاجات التي كانت ستمهّد لاحقاً لأنظمة بديلة كالاشتراكية وستنهي الاقطاعية. كاميرا فيرارا سترصد حيناً هذه الهبّة الشعبية التي ستنقلب إلى عنف شديد في الشوارع والساحات، وحيناً ستلتقط لحظات جلوس القديس بيوس مع نفسه بحثاً عن الله، مواجهاً الشيطان الذي يحوم حوله والذي أصبح في كلّ مكان، متّهماً اياه بالجبن كونه لم يشارك في الحرب. الحرب والصراع في كلّ زاوية من الفيلم، وبأشكالهما المختلفة، مع حرص كبير من المخرج لتصوير مجموع الأحداث كما لو أننا نشاهد فيلم رعب.
هل يمكن للرب ان يكون جواباً على العنف والظلم؟ هذا بعض ممّا يخطر في البال ونحن نشاهد الفيلم الذي يلقي ببعض الأسئلة على عاتقنا في نوع من حض على التفكير والشكّ والإيمان ضمن خلطةٍ، وحده فيرارا يملك سرها. الممثّل شيا لابوف اعتنق الكاثوليكية بعد لعب هذا الدور. هو المعروف بحياته السابقة التي وُصِفت بالصاخبة، كان يائساً لا يرغب في العيش والكاثوليكية، كما يقول، “أنقذته”! لعلها المعجزة الوحيدة في فيلم عن الألم على طريقة فيرارا.