النهار

بدناريكوفا تفكّك العائلة السلوفاكية: لا تواصل والكثير من الصمت!
هوفيك حبشيان
المصدر: "النهار"
بدناريكوفا تفكّك العائلة السلوفاكية: لا تواصل والكثير من الصمت!
"خبزنا اليومي" الذي عُرض في مهرجان كليرمون فيران السينمائي.
A+   A-
السلوفاكية أليتسا بدناريكوفا تتفاجأ لانني أُعجبتُ بفيلمها. أرى ذلك سريعاً على ملامحها. يحدث هذا مع معظم الشباب الذين يكونون في مقتبل تجربتهم السينمائية. تغمرهم السعادة خصوصاً اذا جاء الرأي الإيجابي الداعم ممن يكبرهم عشر سنين أو عشرين سنة. أليتسا اخترعت كلّ شيء، لكن في السينما يمكن اختراع كلّ شيء انطلاقاً من التجربة الشخصية، من العائلة، من الذكريات الأليمة. القرية السلوفاكية التي تجري فيها أحداث فيملها "خبزنا اليومي" الذي عُرض في مسابقة مهرجان كليرمون فيران السينمائي والذي يبلغ طوله 26 دقيقة، تُدعى كيسا لكنها قرية متخيلة تماماً غير موجودة على الخريطة. بحثتُ عنها فور خروجي من الفيلم، لكن لا أثر لها على الإنترنت. 

 
أليتسا بدأت "تتعاطى" السينما في عمر مبكر جداً. "كنتِ في العشرين عندما قدمتِ فيلمك الأول…"، تقاطعني لتصحح لي معلومة: "بل في التاسعة عشرة!". مممممم. أوكي. وتتابع: "استعنتُ بحاسوب والدي وأنا في السادسة، ورحنا أنا وقريبتي نحاول اقتباس القصص، وهكذا خطوتُ أولى خطواتي في السينما. ثم، التحقتُ بالمسرح وصرتُ أمثّل، فانتقلتُ إلى الكتابة والشعر تحديداً، لكن بسرعة شعرتُ أن المسرح محدود وكنت في حاجة إلى كاميرا…".

تروي بدناريكوفا في فيلمها هذا الذي كان شارك قبل كليرمون في مهرجان كانّ ضمن قسم "سينيفونداسيون"، قصّة بسيطة، من تلك القصص التي يملكها الجميع، ببساطة لأن الجميع يتحدّر من عائلة. بالكثير من السخرية التي تؤكد تصالحها مع ذاتها ومع تاريخها، تتطرق إلى أسرتها، الجد والجدة، ثم ولديهما، أي عمّتها ووالدها، ثم هي التي تتجسّد من خلال زويا. تروي كيف التقى الجدّان وكيف تزوجا وماذا حلّ بولديهما. العائلة تعاني مشاكل عديدة كإدمان الكحول الذي ترى فيه حلاً لمشاكلها المتكررة، وأيضاً عدم قدرة أفرادها على التواصل بعضهم مع بعض. هذا كله بسبب مأساة حلت بها وهي موت الابنة مباشرةً بعد انجابها طفلة ستكبر يتيمة الأب والأم. كلّ شيء في فيلم أليتسا ينبض بالحياة. تتسرب الحكاية من بين أناملها من شدة سلاسة الاسلوب وكثافة السرد وجمال الإيقاع. تنظر أليتسا إلى الماضي من خلال عين فتاة من الألفية الثالثة، تماماً كبلادها الفتية التي تنظر إلى تاريخها محاولةً فهمه. 

بصرياً، الفيلم مشغول جداً ومثير. حركات كاميرا شاعرية وصورة أقرب إلى الشريط السينمائي منها إلى الرقمي. "كان لديّ مدير تصوير ممتاز. تحدّثنا كثيراً، وهذا انعكس في الفيلم. ساعدني في ترجمة أشياء كانت في رأسي إلى صور. أدين له بالكثير". 
 
 
(ثائرة تعود إلى المنزل العائلي)
 

تكشف أليتسا أن الفيلم ولد من اللقاء بين ما عاشته وعناصر دخيلة لغايات سينمائية. عندما تقول انها غير مهتمّة بسينما الواقع، أحاججها أن فيلمها يبقى واقعياً، ذلك أن كلّ ما تريه متأصل في المجتمع وإن لم تعشه هي شخصياً، فتضرب مثلاً بمشهد جدّتها وهي تتبادل القبل قبل الارتباط بجدّها. 

العديد من أفلام الدورة المنتهية من كليرمون فيران تناول مسألة الموت، وهذه حال فيلم أليتسا أيضاً حيث تصوّر رحيل عمتها والمأساة التي ألقت بظلالها على العائلة. تقول إن هذا الفيلم كان لها محاولة لتفهم وتتقبّل الضيم. أما الأسلوب التراجيكوميدي، فبالنسبة لها، وضع شيء هزلي في منتصف الحديث عن الموت لن يجعل الشخص ينسى أنه يحكي في موضوع جدّي. هذه فلسفة أليتسا. لكن هل هي كذلك في الحياة، أتسخر من موضوع على قدر من الجدية؟ تضحك. ثم تجيب: "يصعب عليّ التحدّث عن نفسي، أحاول أن أنجز فيلماً تحلو لي مشاهدته لو كنت مجرد مشاهدة. حتى في الدراما الاجتماعية القاسية أحب لحظات الخفّة". هذا يحملنا إلى تبادل بعض الخواطر عن الكوميديا في سينما وسط أوروبا التي لا تزال محلية ولا تُضحك المشاهدين الذين من خارج تلك المنطقة. 

عندما أقول لها أن "خبزنا اليومي" مع بعض البلورة، كان يمكن أن يتحول فيلماً طويلاً، تضحك عالياً فترد: "لا يمكن أن أفعل هذا بعائلتي"، في إشارة إلى الفضائح التي يمكن أن تتولد من خطوة كهذه. "عندما أنجزتُ هذا الفيلم قلتُ لهم ان لا أحد سيشاهده (ضحك). أما الفيلم الطويل فبدأت العمل عليه أخيراً". 

عن عرض الفيلم في مهرجان كانّ، تروي: "لن أنسى مشاركته في كانّ، وكانت المرة الأولى أرى فيها الفيلم على شاشة كبيرة. كان أقوى تفاعل رأيته. حضرتُ مع الطاقم كله، وكانت مناسبة لامتحان بعض النكات على جماهير غير سلوفاكية، فهناك دعابة لا يمكن ترجمتها إلى لغات أخرى ومعناها لا يصل بالكامل. لكني استغربتُ أن الكثير من هذه النكات وصل، وبعد العرض تحدّث معي الكثير من السلافيين ليعبّروا عن تماهيهم مع الفيلم". 

شخصية الجد ظريفة ودمها خفيف. أكشف لأليتسا أن "هذه من الكاراكتيرات التي يحلو لي لقاؤها في الحياة واحتساء البيرة معها"، وهذا يحملنا إلى الحديث عن موضوع الكحول في الفيلم. فالعائلة تتمم حدادها بالشرب. فكرة أليتسا كانت معالجة الألم من خلال ثلاث مراحل: الكحول والله والسرد الطريف والعبثي الذي يأخد مسافة من الأشياء. في عموم الأحوال، فهمت "الابنة الضالة" كثيراً عن العائلة وهي تصوّر الفيلم… هذه العائلة السلوفاكية التي تختصرها بهذه الكلمات: "لا تواصل والكثير من الصمت!". 

اقرأ في النهار Premium